لبنان نجا من انتكاسة طائفية... و«الطائف» أكبر الرابحين
اشتدّي أزمة تنفرجي. هكذا وبعدما كان لبنان على شفير انفجار سياسي - طائفي ينذر بإدخال البلاد في نفق من الانقسام المسيحي - الاسلامي غير المسبوق، أقلّه في الأعوام العشرة الأخيرة، انتهت مرحلة لعب الجميع على «حافة الهاوية» بمخارج شكّلت ما يشبه «طوق النجاة»، الذي شعرت معه غالبية القوى السياسية بأنها إما حققت «انتصاراً» او لم تنكسر.
ففي اللحظة التي كانت بيروت «على سلاحها» وسط أسئلة صعبة حول «اليوم التالي» لجلسة التشريع المقررة اليوم وغداً بحال قاطعتها القوى المسيحية الثلاث الرئيسية وتم تالياً ضرب الميثاقية (المسيحية - الاسلامية)، تَصاعَد «الدخان الأبيض» من الرياض التي شهدت اجتماعات لبنانية على هامش القمة الرابعة للدول العربية ودول أميركا الجنوبية، تُوّجت برعاية الرئيس السابق للحكومة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، تسوية مزدوجة ذلّلت اعتراضات الأطراف المسيحية التي كانت تشترط إدراج قانون الانتخاب على الجلسة التشريعية وإقرار قانون استعادة الجنسية.
وقضت التسوية التي ستسمح بمشاركة كتلتيْ العماد ميشال عون و«القوات اللبنانية» في الجلسة التشريعية (حزب الكتائب يعترض على مبدأ التشريع في ظل الفراغ الرئاسي) بإمرار قانون استعادة الجنسية للمغتربين بعد معالجة بعض النقاط التقنية، وضمان «مقاربة» قانون الانتخاب في الجلسة شكلياً على قاعدة استكمال النقاش حوله من ضمن آليات العمل البرلماني، وعدم عقد جلسة تشريعية لاحقاً دون البحث في قانون الانتخاب.
وكان الأبرز في هذا السياق والذي شكّل نقطة الدفع الأساسية للتسوية، تعهُّد الحريري بـ «أن تيار المستقبل سيشارك في الجلسة التشريعية لإقرار المشاريع المالية التي تتعلق بمصلحة لبنان المالية والاقتصادية ولن يحضر أي جلسة تشريعية بعد الجلسة المشار إليها لا تكون مخصصة لمناقشة قانون جديد للانتخابات»، الى جانب حسْم رئيس «المستقبل» ان الكتلة ستصوّت لمصلحة قانون استعادة الجنسية الذي تعتبره القوى المسيحية جوهرياً.
وبدأ المخرج الذي نُسج في السعودية باجتماع بين رئيس الحكومة تمام سلام الذي يشارك في قمة الرياض وبين عدد من الوزراء بينهم علي حسن خليل (من فريق رئيس البرلمان نبيه بري) وجبران باسيل (صهر عون) ووائل ابو فاعور (من فريق النائب وليد جنبلاط) وسمير مقبل (من فريق الرئيس السابق ميشال سفليمان)، تناول قانون استعادة الجنسية والمقاربة الممكنة لقانون الانتخاب، قبل ان تتبلور التسوية نهائياً في غداء على مائدة الحريري.
وفي قراءة لسيناريو جلستيْ البرلمان اليوم وغداً، فان المتوقّع هو ان يبادر نواب من كتلة «القوات» او عون الى إثارة موضوع قانون الانتخاب من ضمن الأوراق الواردة، والطلب بالتراجع عن التوصية السابقة التي قضت بعدم بتّ هذا القانون في مجلس النواب قبل انتخاب رئيس للجمهورية، الامر الذي سيفتح باب مناقشته وصولاً الى محاولة إقراره في جلسة لاحقة.
ولاحظت أوساط سياسية وجود «قطبة مخفية» تتعلّق بالمهلة المحتملة لطرح قانون الانتخاب على جلسة تشريعية جديدة وهي شهر ونصف، لافتة الى ان العقد العادي لمجلس النواب ينتهي في 31 ديسمبر وبعدها يصبح التئام البرلمان خاضعاً لوجوب صدور مرسوم بفتح دورة استثنائية وهو ما يحتاج الى توقيع رئيس الجمهورية. وفي ظل الشغور الرئاسي هناك حاجة لتوقيع الـ 24 وزيراً الذين تتألف منهم الحكومة التي ورثت صلاحيات رئيس البلاد، مما يفرض ضمناً ان يكون التوافق حصل بين القوى السياسية مسبقاً على قانون الانتخاب الذي سيُعتمد وإلا لن تنعقد جلسة تشريعية لبتّه.
وفيما ساهمت هذه التسوية، التي حجبت الأنظار بالكامل عن االجلسة رقم 31 لانتخاب رئيس للجمهورية (أرجئت الى 2 ديسمبر لعدم توافُر النصاب)، في «سكب مياه باردة» على الواقع اللبناني الذي شهد في اليومين الماضييْن استقطاباً سياسياً - طائفياً حاداً وضع خريطة التحالفات داخل فريقيْ 8 و 14 آذار على محكّ «خلط الأوراق»، أوحى المناخ الذي أعقب تبلور المخرج الذي أعلنت كتلتا عون و«القوات» من بيروت القبول به وباركه الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصر الله في كلمته خلال احتفال «يوم الشهيد» بأن أياً من أطراف الصراع «الخشن» لم يخسر والكل خرج منتصراً، وفق الخلاصات الآتية:
* الحريري، الذي كان حليفه المسيحي رئيس «القوات» سمير جعجع توجّه اليه بـ «نداء» قبل ايام، واصفاً اياه بانه «الأكثر حرصاً على إرث الرئيس رفيق الحريري القائم على الاعتدال وحفظ المناصفة والميثاقية»، ظهر وكأنه «عرّاب» التسوية التي ظهّرت تمسُّكه بثوابت تياره القائمة على الاعتدال والعيش المشترك وصون روحية اتفاق الطائف، وجنّبه «كأس» المشاركة في جلسة تشريعية بغياب المكوّن المسيحي الوازن، وهو ما كان ليشكّل ضربة لصورته و«رصاصة الرحمة» على قوى 14 آذار و«فكرتها» العابرة للطوائف.
* بري، الذي كان جعجع وصفه بأنه «اب الميثاقية» بمفهومها الجديد في لبنان والذي كان مصراً على ميثاقية جلسة تُعقد بغياب القوى المسيحية الثلاث الرئيسية، لم ينكسر وبقي على موقفه الرافض تأجيل الجلسة وإدراج قانون الانتخاب كبند للبتّ على جدول الأعمال في ظل وجود نحو 17 مشروعاً وقبل انتهاء مناقشته في اللجان.
* «حزب الله»، الذي كان مع عقْد الجلسة ولو «بمَن حضر» تحت عنوان «الضرورات المالية» وكسْر حلقة شلّ عمل البرلمان، عاد ودخل بقوة على خط الاتصالات لتدارُك الموقف، وتفادى تالياً حصول تصدُّع في تحالُفه مع العماد عون بموجباته الداخلية، ليتوّج السيد نصر الله بكلامه امس اهمية الشراكة الوطنية والتحالف مع «التيار الحر».
* ان «الحلف الثلاثي المسيحي» بين تيار عون و«القوات» و«الكتائب» حقق انتصاراً صريحاً بمنْع عقد جلسة بلا القوى المسيحية الوازنة وبضمان صدور قانون استعادة الجنسية للمتحدرين من اصل لبناني بعد اعتراضات عليه من أكثر من طرف كانت تشي بأنه لن يمرّ، وايضاً بأخذ «وعد» بمناقشة قانون الانتخاب في اول جلسة تشريعية جديدة.
وقد شكّل هذا «الحلف» وفق اوساط سياسية مطلعة معطى جديداً في المشهد السياسي اللبناني ولو بـ «شقّه المحلي» سيكون من الصعب تَجاوُزه في استحقاقات داخلية أخرى غير مرتبطة بالتموْضعات الاستراتيجية او بالصراع الكبير في المنطقة، علماً ان هذا الثلاثي كان وصل في معرض رفع سقف الضغط الى حد التحضير لتحركات على الارض في حال المضي نحو عقد الجلسة وتَجاهُل مقاطعيها وسط معلومات عن ان التحرك كان يراوح بين اعلان اضراب عام في المناطق المسيحية وتظاهرات حاشدة وقطع طرق في يوم انعقاد الجلسة.
وفي خلاصة المشهد، تؤكد الاوساط المطلعة لـ «الراي» ان الرابح الأكبر في ما جرى امس كان اتفاق الطائف الذي «نجا» بروحيته وصيغته التشارُكية من إعلان وفاته في لحظة اقليمية يجري الحديث فيها عن حلول سياسية للأزمات المشتعلة في المنطقة على قاعدة «استنساخ» هذا الاتفاق.