تحوّلات "الطبقة السياسيّة" اللبنانيّة
كانت محنة اللبنانيّين مع قمامتهم مناسبة لإطلاق سيل من الشتائم ضدّ "الطبقة السياسيّة" على اختلاف أجنحتها.
فالتجربة هذه كانت بليغة الدلالة على وحدة اصطفاف "الزعماء" حيال المسائل الاجتماعيّة والحياتيّة، وعلى عجزهم مجتمعين حيال وضع حلّ لها مقنع وقابل للديمومة.
والحال أنّ ضعف هذه الحملة المحقّة كان مردّه إلى انضمام بعض مؤيّدي هذه الطبقة، وبعض مجدّدي قوّتها، إلى الحملة "البديهيّة" عليها. وهذا من سمات اختلاط المسائل وضياع المسؤوليّة، وبالتالي دقّة التحديد، في أزمنة ومسائل تفسح المجال واسعاً للشعبويّات على أنواعها.
لكنْ يُلاحظ، مع ذلك، أنّ "الطبقة السياسيّة" في لبنان، وعلى عكس ما تحضّنا عليه النوستالجيا وتجميلها للأزمنة المنصرمة ورموزها، لم تكن مرّةً مطابقة لآمال المراهنين على وطن حديث.
فمنذ 1943 فتح التقاسم الطائفيّ ومحسوبيّاته الباب واسعاً للفساد الإداريّ وغير الإداريّ، وللانتهازيّة وتغليب الصغائر الخاصّة. وتلك الظاهرات الأسوأ التي شهدها تاريخنا في حقبة 1943 – 1975 هي نفسها التي اتّسع نطاقها وعُمّمت في الحقبة البادئة عام 1975.
لكنّ خمسة فوارق جدّت في عقود الحقبة الأخيرة (وهي أكثر من نصف عمر لبنان المستقلّ)، محوّلةً الاستثناء (ولو أنّه استثناء عريض) إلى قاعدة:
فأوّلاً، اصطبغت الحياة السياسيّة بالميليشيات المسلّحة وسلوكها و"ثقافتها"، الشيء الذي يرقى إلى بدايات الحرب الأهليّة – الإقليميّة في 1975. وشتّان بين الكيفيّات السياسيّة في التعاطي مع الشأن العامّ والكيفيّات الميليشياويّة.
وثانياً، تعاظمت المبالغ الماليّة المتدخّلة في الشأن العامّ. فإذا كان "المال السياسيّ" قبل 1975 يكاد يُختصر برموز معدودة كنجيب صالحة وحسين العويني وإميل البستاني، فهذا ما توسّع كثيراً مع الطفرات النفطيّة العربيّة التي نما معظم الثروات اللبنانيّة في كنفها وبالعلاقة معها.
وثالثاً، تزايدت بعد اتّفاق الطائف والعجز عن إنجاب أداة سلطويّة ترث "المارونيّة السياسيّة"، حصّة الخارج العربيّ في سياسات الداخل اللبنانيّ، فلم يعد ناشزاً الحديث عن رأي الزعيم أو الأمير العربيّ الفلانيّ في شؤون سياديّة لبنانيّة.
ورابعاً، وتتمةً لعمل الميليشيات اللبنانيّة والمنظّمات الفلسطينيّة المسلّحة، اضطلعت التجربة المديدة للجيش والأمن السوريّين، وتربية معظم السياسيّين اللبنانيّين على يدها، بالمزيد من تلويث السياسة وممارستها وإضعاف ما هو مبدئيّ فيها لصالح ما هو انتهازيّ.
وخامساً وأخيراً، وهو ربّما الأهمّ إذ أنّه البيئة التي تفعّلت فيها العناصر الأخرى، تقطّع معظم العُرى التي كانت لا تزال تربط بين اللبنانيّين، وتجعل منهم شعباً، أو في أسوأ الخالات احتمال شعب.
هكذا بات من الجائز القول إنّ شوائب "الطبقة السياسيّة" التي كان من الممكن إصلاحها في ما لو أتيح للحياة السياسيّة أن تتطوّر مدنيّاً واستقلاليّاً، غدت مستحيلة الإصلاح!