قصف متعمّد على "الطائف"!
تضجّ كواليس البعثات الدبلوماسيّة التي تمثّل الدول الكبرى، أو بالأحرى "المجموعة الدوليّة لدعم لبنان" بأسئلة مصيريّة كبرى: لماذا تطلق المملكة العربيّة السعوديّة النار على رأس رئيس وزراء لبنان سعد الدين رفيق الحريري لترديه سياسيّاً؟. وما هي مصلحتها في تحويل "البيت السنّي" في لبنان إلى "منازل كثيرة"؟، وإذا كانت تريد أن يكون الحريري رأس حربة مشروعها لمواجهة "حزب الله"، وإيران في لبنان، فلماذا أقدمت على ما أقدمت عليه لتعرية هذه الشخصيّة السنيّة المعتدلة من كامل مقومات صمودها في مواجهة المكونات السياسيّة ـ الإجتماعيّة ـ الطائفيّة الأخرى المنتسبة الى وطن التعدد والإنفتاح؟!…
ويبقى السؤال الكبير: لماذا تطلق المملكة العربيّة السعوديّة رصاصة الرحمة على إتفاق الطائف الذي رعته، وتبنّته، وفاخرت بإنجازاته، وأهمها الحرص على التركيبة اللبنانية بكامل مكوناتها، ومقوماتها، وخصائصها؟، وهل بإستهداف طائفة من خلال إستهداف حزب يقوي من ثوابت هذا الإتفاق، ويضاعف من منعته؟!.
إستنفار وطني
لا يملك رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون جواباً قاطعاً، بل يحاول أن يرسم مشروع جواب وطني كامل متكامل للسير به، وهدفه دائماً وابداً السير بسفينة الوطن نحو شاطىء الأمان وسط كلّ العواصف العاتية، والأنواء الصاخبة، والتي تضربها من كل حدب وصوب.
يركن الرئيس الى مكتبه، وينظر الى الملف الأخضر، فيرى أن الدعوة الرسميّة لزيارة طهران لا تزال معلّقة مع وقف التنفيذ، رغم النداءات المتلاحقة التي يحملها كبار الرسمييّن الإيرانيين، وآخرهم المستشار الخاص للمرشد الأعلى الإمام علي خامنئي للشؤون الدولية الدكتور علي أكبر ولايتي، الذي كان في بيروت يوم الجمعة الماضي، وإلتقى بكبار المسؤلين في الدولة والحكومة.
لا يريد الرئيس عون أن يعمّق الشرخ الداخلي. لا يريد أن يفتح نوافذ تتسرّب منها رياح عاصفة وسموم قاتلة. هو منزعج من التغريدات التي يبثّها وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان، وهو (أي الرئيس) الذي ميّز السعوديّة كثيرا، ووضعها في مرتبة خاصة، وخصّها بأول تحرّك خارجي يقوم به بعد تسلّمه مقاليد الحكم في القصر الجمهوري، متجاوزاً بذلك التقليد والعرف الذي درج عليه العديد من رؤساء الجمهوريّة السابقين الذين كانوا يخصوّن حاضرة الفاتيكان وفرنسا في أول تحرّك خارجي لهم.
وفي زوايا القصر، الكثير من الخبايا عن تلك الزيارة التي بنى عليها الرئيس عون آمالا عريضة، خصوصاً لمكانة الوفد الذي نقل الدعوة وكان برئاسة الأمير خالد الفيصل، مستشار الملك الخاص وأمير منطقة مكّة.
وحرص الرئيس يومها أن يصطحب وفدا حكوميّاً رفيعاً، وأن يدرس الوزراء ملفاتهم جيداً قبل الإنطلاق. لكن عندما وصل الى مطار الملك عبد العزيز فوجىء بنوعيّة الإستقبال، ليفاجأ في ما بعد بنوعية المحادثات التي غاب عنها ولي العهد (آنذاك) الأمير محمد بن نايف، وولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. ورغم ذلك أجرى محادثات أراد من خلالها أن يؤكد لمضيفيه، أن في لبنان رئيس جمهورية لا يمكنه أن يكون "باش كاتب" عند أيّ كان!.
وتأكيدا على هذا الموقف "العنيد" سُئل الرئيس في الحوار التلفزيوني:
هل توافقون على ما أعلنه الرئيس حسن روحاني قبل أيام بشأن لبنان؟.
أجاب بلهجة قويّة واثقة: لا.. لا أوافق!.
هذا ما جاء في الحوار الذي جرى في القصر الجمهوري، بمناسبة مرور عام على إنتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهوريّة.
أمّا السؤال فكان يتمحور حول ما أعلنه الرئيس حسن روحاني بأنه لا يمكن إتخاذ قرار استراتيجي في لبنان، أو سوريا، أو العراق، أو اليمن، أو حتى في إفريقيا، بمعزل عن إيران..
لا يريد الرئيس أن يكون لبنان مجرّد ساعي بريد لإيصال الرسائل. ولا يريده قاصراً في مدرسة أحد يلقي عليه الدروس والمواعظ من خلال تغريداته، حول ما يجب عمله وما لا يجب عمله. هناك إفتئات، وتطاول.. لا بل هناك من يرمق البلد بنظرة متعالية وعلى قاعدة أن "مراعيه مشرّعة الأبواب أمام القطعان المتدافعة من كلّ حدب وصوب!".
كثيرون إستفزهم المشهد. رئيس جمهوريّة يطل ببساطة وعفوية على الرأي العام يتحدث بصراحة متناهية عن إنجازات السنة الأولى من الولاية الرئاسيّة، مشدداً على الأمن والإستقرار والسلم الأهلي وسط جوار متفجّر. كان يدرك المخاطر المحدقة، والقوى المتربّصة، فلجأ الى إستنفار وطني للدفاع عن الإستقرار، عن الأمن والأمان، عن السلم الأهلي، عن الشراكة الوطنيّة القائمة عبر التعاون والتضامن والتكامل ما بين الشعب والمؤسسات. كان يعرف حجم ونوعيّة كل الأسلحة التي تصوّب للنيل من وحدة لبنان، وأمنه، وإستقراره، ففاجأهم بالسلاح الأمضى والمتمثّل بالوحدة الوطنيّة المتراصّة زوداً عن لبنان، وسيادته، ووحدة شعبه، وترابه.
"البيت الشيعي"
بدوره ينظر رئيس المجلس النيابي نبيه بريّ الى مكتبه فيجد دعوة رسميّة لزيارة المملكة السعوديّة، موجّهة منذ زمن، وممهورة بوقف التنفيذ حتى إشعار آخر. كان يعرف مسبقاً ثمن الدعوة، وأهدافها، ومضاعفاتها. ولأنه يعرف، فضّل التشبث بالعروة الوثقى التي تربط ما بين حركة "أمل" و"حزب الله". كان يعرف أن المطلوب تحويل "البيت الشيعي" الى منازل كثيرة، ففضّل وحدة الصف، ومصلحة "الزواج الماروني" القائم ما بينه وبين الحزب كبديل عن طلاق قد يكون مدعوماً بقوافل من الجمال المحملة بالهدايا، والكنوز المرصّعة!.
الجبهات المفتوحة
لا يخفي الرئيس بري قلقه، ولا إستغرابه: المملكة الى أين وقد صوّبت مدفعيتها بإتجاهات عدّة، وبدأت بقصف عشوائيّ ينذر بمخاطر جسيمة، وتداعيات خطيرة؟ جبهة داخليّة بين أمراء الأسرة الحاكمة، رغم ان المعنييّن يلمّون جيدا بمآثر الحكمة القائلة: "كلّ بيت ينقسم على نفسه يخرب". وجبهة مع اليمن بدأت تحت شعار "عاصفة الحزم"، ورغم أن العاصفة قد فعلت فعلها مع مرور الزمن، وأعطت نتائج باهرة من حيث منسوب الخراب، والدمار.. إلاّ أن الحزم لم يتحقق، وقد لا يتحقق إلاّ من خلال تسوية قد تكون مكلفة للجميع. وجبهة مع قطر لا تزال مفتوحة على كل الإحتمالات، رغم أن مصر بدأت تعيد حساباتها حول ما تحقق، والأثمان المكلفة مقابل الصمود، ومواصلة المسيرة المحفوفة بالمفاجآت والمخاطر. وجبهة مع سوريا كانت ولا تزال باهظة من حيث التكاليف والأثمان الماديّة والمعنويّة… والآن يبشّر الوزير السبهان بجبهة جديدة مع لبنان لمواجهة إيران و"حزب الله".
المتغييرات.. ورسائل بوتن
وفي عودة الى الصالونات الدبلوماسيّة، هناك جامع مشترك بين القراءات المختلفة، محوره أن ردّة الفعل عند الرئيس العماد ميشال عون كانت مثاليّة. إستوعب على الفور صدمة الإستقالة، لم يبتّ بها، ترك هامشا للرئيس سعد الحريري، وعندما يجتمع به ويستمع الى ما عنده "يبنى على الشيء مقتضاه". ثم بادر الى الإتصال بالفعاليات المحليّة ليضبط الشارع، ويعززّ من مقومات الإستقرار. كما بادر الى الإتصال بعدد من قادة الدول طالبا المؤازرة لتمكين لبنان من مواجهة أي إستهداف لإستقراره ووحدته الوطنيّة.
وما يعززّ من حرص الرئيس وتوجهه الصارم والهادف الى إبقاء المركب اللبناني بعيداً عن التجاذبات الإقليميّة الدوليّة، هو المناخ الدولي ـ الإقليمي المحيط بالملف السوري بعد الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتن الى طهران، وحمل خلالها ثلاث رسائل بالغة الدلالة:
الأولى: فشل المشروع التفتيتي ـ التقسيمي في العراق، بعد الفشل الذي مني به الإستفتاء على إنفصال إقليم كردستان عن العراق. إن التجربة التي خاضها الرئيس السابق مسعود البرازاني، والنتائج التي إنتهى اليها، أكدت وتؤكد بأن المشاريع التفتيتيّة ـ التقسيميّة ممنوعة في سوريا كما منعت في العراق، وإذا كان المحور الأميركي ـ الإسرائيلي يصبّ في مجرى الخيارات التفتيتيّة الأخرى، فعلى السعودية أن تتنحى وتنأى بنفسها.
الثانيّة: على القوى المسلحة غير السوريّة الإنسحاب التدريجي من سوريا، سواء أكانت هذه القوى ميليشيات أو جيوش نظاميّة، وهذا ما تقرر في مؤتمر أستانة. وعمليّة تدوير الزوايا الحادة في سوريا، سيستفيد منها لبنان كون "حزب الله" يمثل طرفاً في الشأن السوري الداخلي.
الثالثة: الحرص على الصيغة اللبنانية الفريدة. ما نقله بوتين الى طهران أن الأمن والإستقرار في لبنان لا يزال في عهدة "المجموعة الدوليّة لدعم لبنان" حتى إشعار آخر… وهذا الرصيد يوظّفه الرئيس عون في حسابات عهده عندما يتحدث عن الهدوء، والإستقرار، والسلم الأهلي.
وتنتهي الكولسات الدبلوماسيّة الى تشخيص سريع: "إذا كان الجنرال الذي صوّب مدفعيته في تسعينات القرن الماضي ضد الطائف وأهله، قد أصبح بفضل التسوية السياسيّة المدافع الأول عن صيغته وميثاقيته، فلماذا تصوّب السعوديّة مدافعها صوب لبنان لتقصف الصيغة والميثاقيّة تحت شعار مواجهة حزب الله وإيران؟. وأين تكمن مصلحتها إذا كانت تصرّ على تحويل البيت اللبناني الى منازل كثيرة؟!".