الإصلاح السياسي في لبنان
للإصلاح في لبنان معانٍ كثيرة، في مشاريع القوى السياسية هناك جدول أولويات يختلف من طرف إلى آخر، فحين يذكر الإصلاح قد يكون المقصود: الإدارة، الوضع المالي والاقتصادي، القضاء، مؤسسات الرقابة، قانون الانتخاب، علاقة المؤسسات والرئاسات والصلاحيات . . إلخ .
لكن الموضوع الطائفي يخترق كل هذه العناوين، بين دعاة إصلاح النظام الطائفي، أو الإصلاح في النظام الطائفي، أو إلغاء الطائفية، أو علمنة الدولة، وقد ظهر مؤخراً بقوة مفهوم الدولة المدنية .
خلاصة التجربة اللبنانية أكدت أن أي شكل من الإصلاح يحتاج إلى أن يتعامل مع المسألة الطائفية . فهي تحدد طبيعة الإصلاح وحدوده وإمكاناته . فهناك تجربة غنية بين الإصلاح والطائفية منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب أو مع اتفاق الطائف . المسار العام لتجربة الإصلاح مخيّب للآمال لأسباب مختلفة ومتعددة، إذ لم يتقدم اللبنانيون على طريق بناء الدولة الحديثة . تتقاطع آراء القوى السياسية عند العقدة الطائفية، وكذلك آراء النخب السياسية . هناك من يعتقد أن الإصلاح مايزال ممكناً في إطار النظام الطائفي أو شكل من أشكال النظام الطائفي، وآخرون يعتقدون أن الإصلاح الحقيقي يشترط تغيير النظام الطائفي، نحو أفكار غامضة أو شعارات مازالت تتردد منذ قيام الدولة اللبنانية .
في المحصّلة الواقعية تبيّن أن شكلاً من الإصلاح ممكن مع النظام الطائفي، أو كان ممكناً بظروف مختلفة، كما حصل مع تجربة الرئيس فؤاد شهاب . يمكن وصف ذاك الإصلاح بالطائفية العادلة، أو بعدالة أكثر من النظام الطائفي . النتيجة نفسها حصلت مع اتفاق الطائف، أي أن توزيع السلطة بمعناها الشامل يمكن أن يحصل ويؤدي إلى بعض فترات الاستقرار وأن يجلب بعض التحسين في ظروف البلاد . لكن العدالة الطائفية هذه لا تدوم أمام حراك المجتمع وتغيير معادلاته الداخلية، وبصورة أوضح أمام تأثير النزاعات الإقليمية، وهو ما يرسم المشهد اللبناني اليوم . حين ندخل في أزمة سياسية نجد أن الجماعات الطائفية تضع شروطها على الدولة ولا تتساهل تجاه أي قضية فرعية ويتعمق اتجاه المحاصصة في السلطة على حساب تطور مفهوم الدولة المركزية . يعني ذلك ببساطة ضرورة معالجة الشأن الطائفي كمدخل لكل إصلاح، من دون أن ندخل هنا في عرض طبيعة الأزمة السياسية وآلياتها . سنتناول المسألة على شكل أطروحات أو موضوعات مفتوحة على التفكير انطلاقاً من المعطيات والوقائع لا من افتراضات نظرية .
ظهرت المسألة الطائفية في منتصف القرن التاسع عشر (1840-1860) في شكل نزاع بين الدروز والموارنة (جبل لبنان)، وامتدت تأثيراتها إلى أفراد الجماعتين في بلاد الشام . في أساس النزاع التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها جبل لبنان من جراء محاولات الانتقال من النظام المقاطعجي وعلاقاته، إلى النظام الرأسمالي، وما انعكس على العلاقة السلطوية القائمة آنذاك . لم يكن النزاع دينياً، بمعنى أنه تصادم بين ثقافتين لهاتين الجماعتين اللتين تشاركتا قروناً عدة في التعايش وفي التفاعل الثقافي وعدم التنافر الديني .
طرأ على هذا النزاع تدخل خارجي (الغرب والدولة العثمانية)، فأعطى هذا النزاع بعض ملامح النزاع العَقَدي (الإسلامي - المسيحي) أو (شرق - غرب) .
تجاوز الطرفان هذا الصراع إلى نظام سياسي طائفي مع القائمقاميتين على أساس السلطتين، ومع المتصرفية على أساس التمثيل النسبي . كان هذا الحل ذكياً لأزمة علاقة بين جماعتين لهما كيانية مختلفة . بعد نصف قرن تغيّرت المعادلات في المتصرفية ومن حولها فتجاوز هذا النزاع المحلي إلى تشكيل نظام إقليمي بعد انهيار الدولة العثمانية وتشكيل كيانات جديدة في إطار العملية الاستعمارية .
مع ولادة كيان لبنان الكبير تغيّرت مكونات الاجتماع السياسي، فلم يعد الدروز الطرف المقابل للموارنة، بل المسلمون السنة بصورة أساسية الذين تقدموا على ما عداهم في مواجهة الطرف الماروني .
تحولت المسألة الطائفية إلى نزاع مسيحي - إسلامي على أساس الهويات القومية وليس على أساس ديني . لكن الهويات ارتبطت أيضاً بميزان القوى السياسي وانعكاساته على السلطة . وتدرج موضوع توزيع السلطة حسب التطورات من دستور 1926 إلى ميثاق 1943 إلى معالجة ذيول أحداث 1958 حتى الطائف 1989 . في خلاصة هذا المسار تمت معالجة مسألة الهوية الوطنية والقومية، وكذلك معالجة اقتسام السلطة أو المشاركة في صياغة المشروع اللبناني كله . والمشروع اللبناني هو مجموع من علاقات الهوية والسلطة وطبعاً الموقع الإقليمي وشكل النظام .
استجدّ على هذا المسار دخول الطرف الشيعي على المعادلة من خلال مشروعه السياسي في المقاومة وعلاقتها العضوية بالنظام الإقليمي . من الثنائية الدرزية - المارونية، إلى الثنائية المارونية - السنيّة، إلى ثلاثية النزاعات مع بروز الطرف الشيعي .
لكن الأهم في كل هذه التطورات أن الطائفية لم تبقَ طائفية سياسية، بل هي تجذّرت في الثقافة الدينية مع المناخ العام الذي يسيطر على المنطقة . فقد عرفنا في لبنان حركات سياسية ذات بُعد ديني لم يكن ذلك من قبل . . يزيد ذلك من تعقيد الأزمة ولكنه يزيد من الحاجة إلى حلّها بصورة جذرية .
الاستنساخ الرئيس أن الظاهرة الطائفية ليست هي نفسها في القرن التاسع عشر واليوم، لا من حيث قواها ومكوناتها وآليات اشتغالها . استمرت الطائفية في التاريخ، وتطورت، ليس فقط بصفتها عصبية، على أهمية هذا التعريف، بل لأنها كانت تغتذي من مصادر سياسة وثقافية واجتماعية متجددة . فلا يمكن أن يكون الصراع الدرزي- الماروني هو نفسه الصراع المسيحي- الإسلامي، أو صراع الجماعات المذهبية بما في ذلك الصراع الإسلامي - الإسلامي .
الطائفية ظاهرة اجتماعية تاريخية شاملة تنطوي على عنصر الهوية المتمايزة لجماعة ثقافياً، وتشكل عصبية بهذا المعنى تنافسية مع الآخر، لكنها ذات جذور اجتماعية تتجلّى في تفاوت الحقوق الناتجة عن نشاط اجتماعي مختلف أو متمايز، وهي ذات بعد تاريخي، لكنها تتجدّد وتتطور تبعاً للظروف حتى أصبحت ظاهرة شاملة مع تكريسها في النظام السياسي والدستور وآليات السلطة .
الطائفية اليوم في لبنان، نمط علاقات ثقافية، اجتماعية، سياسية .
أ في الثقافة هي مجموعة قيم وسلوكيات وتطلعات تنعكس على الحقوق والواجبات .
ب اجتماعياً: هي منظومة متكاملة من النشاط ومن الامتيازات والحرمانات ومن الحقوق والواجبات ومن الخيارات .
ج سياسياً: هي منظومة من آليات اشتغال السياسة في المجتمع الأهلي والمدني وفي الدولة . وهي مجموعة من القواعد التي تدير النزاعات السياسية والسلطوية .
باختصار ليست الطائفية مجرد عصبية (ثقافية أو أيديولوجية أو مرجعية تفكير واتجاه سياسي)، بل هي قاعدة لتوزيع الدخل الأهلي، وشبكة من المصالح الاجتماعية التي تقوم بينها وبين تعبيرها الثقافي والسياسي علاقات جدلية .
أ في السياسة تتخذ الجماعات الطائفية مواقف وتعبر عن اتجاهات متعارضة تجاه عدة قضايا من السياسة الخارجية والدفاعية إلى الأمن الداخلي وتوازنات السلطة وتوزيع مفاصلها وعلاقة مؤسساتها .
ب في الشأن الاجتماعي تعبر الجماعات الطائفية عن أولويات مختلفة وتقوم على الدفع في خيارات متباينة ولو أنها تلتزم جميعها النظام الاقتصادي الحر . لكن ضغطها الأساسي يتجه نحو توزيع الدخل الأهلي وفق اعتبارات مختلفة، مناطقياً وقطاعياً وخدماتياً .
ج في الشأن الثقافي تعبر الجماعات عن التزامات وخيارات تعكس المصادر الدينية والمذهبية والثقافية المكتسبة، ولو أنها تتلاقى عند ضمان الحريات الدينية والثقافية مع سعي لترجيح عناصر إحداها لو وضعنا قائمة موضوعات في مختلف شؤون الحياة واستفتينا جمهور هذه الجماعات عنها، لكانت النتيجة (وقد حصل هذا) مختلفة في النظرة إلى كل هذه الموضوعات .
ينعكس هذا المناخ (الطائفي) في أمور بسيطة جداً في كل قرار سياسي أو مالي أو إداري أو قضائي أو أمني .
ما استجد بعد الحرب الأهلية (1975-1990) وتطبيق الطائف، هو تعميق المنحى الاقتسامي التخصصي للسلطة . فلأول مرة في تاريخ الدولة هناك سلّة من التوازنات شملت توزيع مراكز السلطة العليا ثم الوزارات، ثم المؤسسات، ثم الإدارات، ثم مواقع القرار لإحداث ما سمّي بالتوازن الوطني (الثنائية المسيحية -الاسلامية) وضمن هذا التوازن العريض (التعددية المذهبية) .
كل ما استحدث بعد الطائف من مؤسسات، وكل ما أقر من إصلاحات خضع لهذا الاعتبار: المجلس الدستوري، المجلس الاقتصادي الاجتماعي، المجلس الوطني للإعلام، مجلس الأمن المركزي، المجالس والصناديق، فضلاً عن توزيع الحقائب الوزارية .
لا يختلف اثنان في لبنان على أن صيغة هذا النظام الذي ولد بعد الطائف لم تنجح في تأمين الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي، ولم تنجح في تطور مشروع الدولة الحديثة، ولم تعزز فكرة المواطنة وحقوقها، ولم تنجح في معالجة نتائج الحرب ولا في استعادة النسيج الوطني وتنمية الشعور الوطني والعيش المشترك .