معوقات الإصلاح في لبنان
في مجتمع متنوع (أو تعدّدي) مستقطب طائفياً ومذهبياً كما هو حالنا في لبنان، يحتاج الإصلاح إلى جهد تفاوضي استثنائي . كما يحتاج دائماً إلى استحضار فكرة التوازن في المصالح وبلورة مجموعة من الضمانات التي تشجع الفرقاء على القبول . هكذا علمتنا تجربة اتفاق الطائف ولو أن أسباب عدم تطبيقه إقليمية ودولية أكثر منها محلّية . ولأن الطائف لم يطبق نشأت بعده معطيات باتت تفرض تسوية جديدة .
في الطائف هناك تكامل بين عدة مطالب متناقضة . وجدت كل الجماعات والفرقاء الخارجيين مصالحهم فيه: السيادة مقابل العلاقات المميزة مع سوريا . المشاركة مقابل ضمانات التوازن . تجسدت هذه التسوية في مجموعة من المؤسسات المعدلة أو المستحدثة . ما يهمنا قوله إن الفرقاء المتنازعين توصلوا إلى تفاهم شامل لم يترك مسألة واحدة معلقة وأجروا التعديلات الدستورية التي عبّرت عن صيغة إدارة الحكم فوراً . أما المطالب الإصلاحية الهادفة إلى تحديث الدولة فقد توقفت باعتراض أحد الفرقاء على البعد الإقليمي للاتفاق، ثم بعدم تطبيق القرار 425 وتأجيل الانسحاب الإسرائيلي الذي وعدت به أمريكا لمفاوضات مدريد والتسوية الشاملة .
حتى هذه اللحظة يشكل العامل الإقليمي في أزمة بناء الدولة الدور الحاسم . هل يؤجل اللبنانيون إنجاز بناء دولتهم بما تقتضيه من إصلاح الى حين زوال المؤثرات الخارجية، أم أنهم مطالبون بابتداع صيغة للتعايش مع هذه الأوضاع غير المحسومة في المدى المنظور؟ من البديهي القول إن على اللبنانيين إيجاد صيغة لإدارة شؤونهم في ظروف الحرية والكرامة والاستقرار .
لكن ما هذه الصيغة وكيف يمكن أن تستجيب للحاجات المتعارضة بين الجماعات الطائفية السياسية وبينها وحاجات جمهورها لقيام دولة قوية وعادلة؟
في تشخيص موضوعي لمحرِّضات السياسة اليوم نجد أن المسيحيين عموماً قلقون على مستقبلهم كأقلية مع تزايد التحدي الديمغرافي، وقلقون على حريتهم مع تصاعد المد المتطرف الإسلامي في المنطقة . في حين أن الشيعة الذين يشعرون بفائض القوة على المستوى الداخلي فهم قلقون من الحرب الإسرائيلية التي تستهدف وجودهم . أما السنة الذين تحولوا الى طرف محوري في النظام فهم يخشون المنافسة التي يشكلها تحالف الطوائف الأخرى ضد سلطتهم . ويبقى الدروز الذي يلمسون تراجع دورهم السياسي والاقتصادي امام الحضور الفاعل للآخرين .
في هذا المناخ العام تتقدم أولوية الهم الوجودي عند الجماعات على حساب أية اهتمامات أخرى، ويتقوى مع العصبية التسليم للزعامة بإدارة هذه المواجهة خاصة بالعلاقة مع الخارج . الجميع هنا يعتقد أن الرعاية او الحماية الخارجية هي حاجة وضرورة لتعويض اي نقص في الإمكانات وعناصر القوة .إذا أردنا أن نخاطب اللبنانيين بمنطق الإصلاح وبمنطق الدولة لابد من طرح خطة وطنية تحاكي هواجس الجماعات كلها . رئاسة الجمهورية تستطيع المبادرة لإدارة حوار وطني على هذا الصعيد شرط أن تحضّر الملفات التي تتناول كل القضايا بما يؤكد أنها لا تستهدف فريقاً أو جماعة .
في الدستور نوعان من القواعد الأولى تتعلق بفلسفة الكيان والوطن والدولة والعيش المشترك وهي التي يجب الاستيحاء منها، والثانية هي آليات الحكم والمؤسسات والحقوق والواجبات التي يجب أن تكون متحركة في خدمة المشروع الوطني اللبناني . ما تضمنته مقدمة الدستور ليس بنوداً إصلاحية عادية بل ركائز لبناء الدولة . ولكل فقرة إرث تاريخي من المطالبة والتفكُّر والتجربة بحيث يطمئن لها جميع اللبنانيين وهي العقد الوطني الحقيقي الذي لا بديل منه .
كل نقاش جزئي أو حوار في موضوع وطني بمعزل عن الميثاق الوطني الذي أكدته مقدمة الدستور خطياً هذه المرة هو نقاش غير صحيح ومحكوم بهم فئوي سلباً أو إيجاباً . من هنا جاء إنشاء هيئة الحوار الوطني حول الاستراتيجية الدفاعية مبتوراً وسيظل خلافياً لأنه لا يؤدي الى إيجاد التوازن الضروري بين مطالب وحاجات وهواجس كل الفرقاء . نفس الشيء كانت مبادرة رئيس المجلس النيابي لطرح تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية . ونفس الشيء حصل في مسألة حقوق اللبنانيين السياسية لجهة خفض سن الاقتراع أو إقرار قانون جديد للجنسية أو مشاركة المغتربين في الانتخاب أو حق المرأة في منح جنسيتها لأولادها . حتى تعديل قانون البلديات لا يقع خارج المعايير الحالية لتوازنات السلطة، لأنه يطاول في العديد من المدن مبدأ المشاركة . فإذا كنّا جادين في الإصلاح أي في إيجاد صيغة مستقرة للعيش معاً في حرية وكرامة، علينا أن نبلور خطة برنامجية لتطبيق الميثاق الوطني . هناك مستويات مترابطة ومتكاملة بين إدارة السلطة السياسية والتنظيم الإداري، بين قاعدة حقوق المواطنين وضمانات الطوائف، بين الدفاع عن لبنان وسيادته وبين المشاركة . بين إلغاء الطائفية في القانون وإلغائها في الواقع .
لا يفعّل دور المجتمع المدني بانضمام ممثلين عنه الى أقطاب السلطة . من المفيد ذلك لو تم الأخذ بمعيار تمثيل التيارات السياسية والفكرية الى جانب ممثلي الطوائف . لكن الدور الأكبر الذي يمكن القيام به هو إنشاء فريق عمل متخصص يضع التصور الكامل والشامل لدولة لبنان، ويكون منطلقاً للحوار .
من أبرز مظاهر أزمتنا أننا بعد عقدين من تعديل الدستور لا نجد من يدافع عنه أو يحمل مسألة تطبيقه، ولاسيما الرئاسة الأولى التي أسند إليها الدستور هذه المهمة الجليلة . انغمست الرئاسة في السلطة السياسية بدل الوقوف عند سلطة الدستور واختارت الانخراط في اللعبة السياسية بدل أن تضبط إيقاعها على المبادئ الأساسية للدولة . تدير الرئاسة أزمة النظام في حين المطلوب حلّها . لا معنى لحضور لبنان في العلاقات الدولية والخارجية طالما أن دولة لبنان غير جاهزة لوجود مستقر وفاعل .