النسبية واتفاق "الطائف"
درجت العادة أن يفتح استحقاق قانون الإنتخابات النيابية في لبنان، من بوابة السياسة الداخلية وأحيانا الإقليمية، وليس من باب عدالة التمثيل وصحته، وفي كثير من الأحيان يشتد الصراع على ضوء التحالفات السياسية قبل الإنتخابات النيابية، دون أن ننسى العوامل العربية والإقليمية وربما الدولية.. فكيف يكون الحال ونحن في خضم “الربيع العربي” وتداعياته المحلية، خاصة بعد وصول الربيع الى “الشقيقة”..
لكن الغريب هذه المرة، ان حقيقة النقاش السياسي المحتدم، ينطلق من معادلة “مقلوبة”، عنوانها: كيف يمكن إنتاج قانون إنتخابي للحد من زعامة قيادة سياسية إرتبط تاريخ لبنان بها، قبل الإستقلال وبعده..
ومن المؤكد أيضا ان يكون تعديل قانون الإنتخابات النيابية هو من أبرز الإستحقاقات في المرحلة المقبلة، لما له من أهمية في إعادة رسم الخريطة السياسية في لبنان، على قاعدة الحفاظ على الوحدة الوطنية وتعزيز مفاهيم الحرية والديمقراطية من جهة، والتأسيس لإختيار ممثلين للندوة النيابية والسلطة الإجرائية بشكل ينسجم مع موقع وتاريخ لبنان الوطني والقومي، ويضمن إمكانية المشاركة الفاعلة في صياغة القرار السياسي الذي يعزز الإلتزام بالقضايا العربية من جهة ثانية.
لكن تثبيت هذا التوجه الوطني والعروبي المنسجم مع ما نصَّت عليه وثيقة الوفاق الوطني (الطائف)، يفترض اعتماد نظام إنتخابي لا يتعارض إطلاقاً مع الحقوق المشروعة للأقليات الطائفية في التمثيل السياسي، وإنفتاح لبنان على محيطه الطبيعي، مع الأخذ بعين الإعتبار أن كل الطوائف والمذاهب في لبنان هي أقليات بمعنى من المعاني..
من هنا فإن أي قانون للإنتخابات النيابية، يجب أن يراعي صحة التمثيل الشعبي والوطني، وتطلعات لبنان، خاصة الشباب ومطالبهم المحقة في تخفيض سن الإقتراع الى الثامنة عشرة، وإتاحة الفرصة لاقتراع المغتربين، إضافة الى تعزيز مبادىء الحرية والديمقراطية والوحدة الوطنية، وكذلك تعزيز سياسة الإنفتاح والتواصل والتكامل بين لبنان ومحيطه العربي.
لكن من المفيد هنا الإشارة، الى أن تعديل قانون الإنتخابات النيابية يجب أن يراعي أمرين أساسيين:
الأول، عدم الإستنسابية في تطبيق “إتفاق الطائف”.
الثاني، عدم استنساخ قانون إنتخابي على “أساس الموضة”.. فإن للبنان خصوصية لا يجوز تجاهلها.
في البند الأول: فإن إتفاق الطائف لحظ الغاء الطائفية السياسية، من خلال “إنشاء الهيئة الوطنية العليا” كما نصّت عليه المادة 95 من الدستور، والشروع بإنتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، تتمثل فيه كل القوى السياسية ويفسح في المجال أمام الشباب والقوى الحية المؤمنة بلبنان الوطن لا لبنان الطوائف، للوصول الى الندوة النيابية..
ماذا تعني المادة 95 من الدستور؟
تعني تشكيل الهيئة العليا أولا، ثم انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، وتعديل قانون الإنتخاب ثانيا. ويبقى السؤال ما الذي منع سابقا ويمنع حاليا تشكيل هذه الهيئة التي نص عليها الدستور؟؟ وما الذي حال دون تشكيلها، بعد مرور حوالي 25 سنة على اتفاق الطائف؟
اما الطائف، فلم يقل بلبنان دائرة واحد، بل قال بـ”الدائرة الوسطى” وربط الدائرة الوسطى بـ”إعادة النظر بالتقسيم الإداري”.. ولم يقل بالنظام النسبي، وكلمة النسبية الوحيدة التي وردت في (اتفاق الطائف) لا علاقة لها إطلاقا بقانون الإنتخابات النيابية..
ان “اتفاق الطائف” ينص في البند الخامس من (الإصلاحات السياسية)، على ما يلي:
“الى ان يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي توزع المقاعد النيابية وفقاً للقواعد الآتية:
أ – بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.
ب – نسبياً بين طوائف كل من الفئتين.
ج ـ نسبياً بين المناطق.
ويقول اتفاق الطائف أيضا، في البند السابع من (الإصلاحات السياسية):
“مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية”.
ويحدد المرحلة الانتقالية بما يلي: “الغاء قاعدة التمثيل الطائفي واعتماد الكفاءة والاختصاص في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والامنية والمؤسسات العامة.. وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص اية وظيفة لأية طائفة”.
من هنا، فإن (الطائف)، عندما ربط قانون الإنتخاب بتشكيل “الهيئة الوطنية العليا” وانتخاب مجلس نيابي على أساس لا طائفي، كان يعي تماما، أنه لا يمكن التوفيق بين النظام النسبي أو الأكثري والمحاصصة الطائفية والتوزيع المناطقي.. مع الإشارة الى ان إعتماد الدوائر الكبرى أو الواحدة في التقسيمات الإنتخابية، هو في الوقت ذاته غير ممكن في ظل النظام الطائفي..
اما القول باعتماد “المحافظة” دائرة إنتخابية، فهذه بدعة سياسية لا أساس لها لا في الطائف ولا في الدستور اللبناني، حيث أن الطائف ترك موضوع التقسيمات الإدارية للإصلاحات السياسة في مجال اللامركزية الإدارية، حيث ينص اتفاق “الطائف”، في بند (قانون الانتخابات النيابية) حرفيا على ان: “تجري الانتخابات النيابية وفقاً لقانون انتخاب جديد على اساس المحافظة، يراعي القواعد التي تضمن العيش المشترك بين اللبنانيين وتؤمن صحة التمثيل السياسي لشتى فئات الشعب واجياله وفعالية ذلك التمثيل، بعد اعادة النظر في التقسيم الاداري في اطار وحدة الارض والشعب والمؤسسات”.
كل هذا يعني، ان عدم الشروع بتطبيق المادة 95 من الدستور، وبانتظار إلغاء الطائفية السياسية وإنشاء الهيئة الوطنية العليا، التي نصّ عليها إتفاق الطائف، يجعل من محاولة استناد البعض الى (اتفاق الطائف) لطرح “النسبية” او لبنان “دائرة واحدة” مجرد بدعة لا تمت بأية صلة لاتفاق الطائف، وكل ما يطرح في هذا المجال، لا علاقة له بـ”صحة التمثيل وعدالته”..
اما في البند الثاني: فإن استنساخ نظام إنتخابي، بالإستناد الى دولة أو نظام ما، هو مجرد “هرطقة”، وعلى اصحاب بعض هذه النظريات، أن يجيبوا عن سؤال بسيط جدا: هل يوجد، في أي مكان في العالم، من أوروبا الى أميركا، وصولا الى أفريقيا واميركا اللاتينية وكل دول العالم الثالث، دولة شبيهة بلبنان؟ بمعنى آخر، هل هناك قانون انتخاب نيابي في العالم، عليه ان يراعي التوزيع الطائفي والمذهبي والمناطقي ليس على المستوى الوطني ككل – لمن يحلو لهم أن يتحدثوا عن لبنان دائرة واحدة – بل على مستوى الدوائر واحيانا الأحياء، كما هي الحال في بيروت مثلا؟
إذا وجد في العالم، خصوصية شبيهة بلبنان فلنأخذ بها، لكننا حتما لن نجد..
******
في قانون “النسبية”
أما في قانون الإنتخاب “النسبي”، واستناد بعض المزايدين الى مشروع كمال جنبلاط، الذي أطلقه في العام 1972، فعلينا أن نتذكر وأن نذكر البعض، ان مشروعه طرح قبل الحرب اللبنانية، يوم كان “لبنان واحدا” وليس ثمانية عشر لبنان على عدد المذاهب اللبنانية كما هي الحال اليوم!!..
قبل الحرب الأهلية اللبنانية، كان الإنقسام في لبنان إنقساما سياسيا، وكل الأحزاب اللبنانية طائفية كانت أم وطنية، كانت، الى حد ما، عابرة للمناطق والطوائف اللبنانية، كان هناك ما يسمى باليمين واليسار، فاليمين كان مختلطا ومتنوعا من كل الطوائف والمذاهب، وكذلك كانت حال اليسار، علما ان كمال جنبلاط كان يحبذ تسمية “وطني وغير وطني”.. فـ”اليمين غبي واليسار متخلف”.. حسب تعبيره!!..
وللتذكير والتصحيح فقط، فإن كمال جنبلاط لم يقل بلبنان دائرة واحدة، بل طرح الدائرة الصغرى التي يتراوح عدد نوابها بين “3 و8 نواب”.. كما انه قال بالنسبية مع إلغاء الطائفية.. وفي كل الحالات اشترط الدائرة الصغرى.. ولم يقل بشكل قاطع باعتماد النظام النسبي على اساس نظام طائفي..
من هنا، فان اعتماد قانون انتخاب على اساس النظام النسبي، يشترط وجود مواصفات محددة وواضحة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولا: الغاء الطائفية السياسية.
ثانيا: قانون أحزاب وطني عصري، لا يقوم على أساس مذهبي أو طائفي.
ثالثا: قانون أحوال شخصية مدني.
رابعا: فصل الدين عن الدولة.
ولذلك، فبعد الإنتقال الى هذه المرحلة كما حددها الطائف، يبدا الحديث عن شكل النظام الإنتخابي، حيث ان النظام الذي يمكن اعتماده في لبنان، نسبيا، أكثريا أو مختلطا، يخضع لأشكال مختلفة ومتعددة، فلا النظام النسبي شكل واحد ولا النظام الأكثري شكل واحد أيضا، وكذلك الأمر بالنسبة للنظام المختلط، سواء بالنسبة لاحتساب النتائج أو لاحتساب المقاعد.. أو شكل اللوائح أو القوائم أو عدد الدورات.. الخ..
صحيح ان هناك الكثير من الملاحظات والآراء حول النظام الأكثري سلبا أو إيجابا، ولكن الملاحظات على القانون النسبي هي كثيرة أيضا، على المستوى الواسع والعام..
أما بالنسبة الى لبنان، صحيح ان النظام الأكثري لا يلبي كل الطموحات وفيه شوائب كثيرة، ولكن النظام النسبي يتعدى كل الملاحظات، الى استحالة إعتماده أو تطبيقه في ظل نظام طائفي – مذهبي – مناطقي، كما هي الحال في لبنان.. هذا البلد الذي لا مثيل له في كل العالم.. من حيث تركيبته السياسية والطائفية التي تزداد تجذرا وتعقيدا!!..
يبقى أن نقول أخيرا، ان بعض الدول التي اعتمدت النظام النسبي، إما تخلت عنه، أو لديها عليه العديد من الملاحظات.
صحيح ان “النظام النسبي” يؤمّن العدالة الحسابية في توزيع المقاعد النيابية، بحيث ان كل القوى قادرة على أن تتمثل في مجلس النواب.. لكن التقييم لأي نظام إنتخابي لا ينطلق من عدالته فحسب، بل أيضاً من فعاليته (توفير وصول حكومة متجانسة) فالتجانس في الحكومة لا يمكن ان يؤمنه التمثيل النسبي.
والمثال على ذلك واضح في تشكيل كل حكومات لبنان تقريبا، التي اعتمدت “النسبية” المقنعة أو غير المعلنة، في تشكيلها واطلق عليها اسماء شتى: حكومة “الوفاق الوطني” أو حكومة “الوحدة الوطنية”، وكانت للأسف، كلها حكومات غير منتجة.. ومثلت أبشع أنواع النظام النسبي في كل الحكومات المتعاقبة منذ إتفاق الطائف.. ولذلك، فإن عدم التجانس والإستقرار وبالتالي عدم الإنتاجية في مثل هذه الحكومات، دعا بعض الدول الى التخلي عن “النسبية” بسبب عدم استقرار حكوماتها..
ومن جهة ثانية، فان النسبية تحد من حرية الناخب، لأنه وبالرغم من الصوت التفضيلي، الذي سيكون خاضعا لنظام اللائحة الحزبية، فالتشطيب والتغيير والتبديل في الأسماء يتناقض مع جوهر النسبية التي تجعل من الإنتخاب صراع عقائد وأحزاب.. بالإضافة الى أن النسبية تكرّس الإنتهازية، في مثل أوضاعنا، من خلال إنتحال الصفة الحزبية لغايات إنتخابية!!.
لذلك، فإن الخلفية السياسية لطرح قانون انتخاب على أساس النسبية، واضحة جدا، واستعمال بعض المفردات السياسية منذ فترة والتي تبدو في ظاهرها تبجيل وتفخيم بموقع ودور وليد جنبلاط، اما باطنها فـ”ملغوم” وذلك لا يخفى على أحد!!.. مثل: “بيضة القبان”، “يسقط ويعوم الحكومات”، “صانع الأكثريات”، “يقلب التوازنات”، “حصته أكبر من حجمه”.. الخ..
نعم، هذا هو وليد جنبلاط.. فلا يستطيع أحد ان يكبر من خلال “تصغير حجم” وليد جنبلاط، وربما العكس هو الصحيح: “كبر” وليد جنبلاط جعل الكثيرين يكبرون أكثر من أحجامهم.. فحجم وليد جنبلاط ليس بعدد نوابه ولا بحقائب وزرائه.. ومن يلهث للحاق به، عليه أن يعي ان تخلفه عن اللحاق بالركب.. لا يكون بتقليص عدد نوابه في المجلس النيابي.. فالأعداد لا تبني رجالات دولة وزعامات سياسية.. ولذلك عليكم ان لا تتوهموا كثيرا!!.. فلا النظام الإنتخابي الأكثري يصنع كبارا ولا النظام النسبي يعلي شأن الصغار..
من هنا، فإن المطلوب إبتداع قانون انتخاب يحترم خصوصية لبنان وتركيبته الطائفية ويؤمن صحة وعدالة التمثيل في بلد غارق حتى العضم في الطائفية، مع الأخذ بعين الإعتبار ان كل الطوائف في لبنان هم أقليات.. فالأكثرية مثلا في الشمال هي أقلية في الجنوب، والأكثرية في الجبل هي أقلية في البقاع والأكثرية في الجنوب هي أقلية في بيروت وهكذا دواليك..
ولبنان بالنهاية لا تحكمه أكثريات مهما علا وكبر شانها، ولا تهمش فيه طائفة مهما كان عددها، خاصة بعد ان بات عرفا ان لكل طائفة في لبنان، حق “الفيتو” السياسي.. هذا هو لبنان.. واللعب بخصوصية التوازنات الدقيقة، هو لعب بالنار، التي تحرق أصابع الكبار قبل الصغار..
وأخيرا، يمكن رسم خريطة الطريق للإصلاحات السياسية والإدارية استنادا لـ”اتفاق الطائف” حسب التسلسل التالي:
1- قانون انتخاب خارج القيد الطائفي.
2- إستحداث مجلس للشيوخ.
3- الغاء الطائفية السياسية، وتشكيل الهيئة الوطنية.
4- الغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف..
5- اللامركزية الادارية الموسعة.
6- قانون انتخاب جديد على اساس المحافظة، بعد اعادة النظر في التقسيم الاداري..(إضافة الى تخفيض سن الإقتراع ومشاركة المغتربين)..
7- انشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي للتنمية.
8- بسط سيادة الدولة اللبنانية على كامل الاراضي اللبنانية.
9- حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية وتسليم اسلحتها الى الدولة اللبنانية، من خلال إحياء طاولة الحوار الوطني.
وأخيرا، فإن اعتماد النظام النسبي من دون الإصلاحات الأخرى يعني تجويف القانون الجديد من روحيته “النسبية” في محاولة واضحة لاستهداف قوى سياسية فاعلة لمصلحة فريق من الأكثرية في الحكومة الحالية.. وبعض الأطراف الذين يتمسكون باعتماد النظام النسبي لا يتطلعون الى إيجاد قانون انتخاب عادل يؤمن التمثيل المتوازن بمقدار ما يصرون على الاستقواء بحجمهم الأكثري في الحكومة لإلغاء خصومهم.. وكلام أحدهم ان “بعض الأطراف يأخذ أكبر من حجمه ولا بد من إعادته الى حجمه الطبيعي”.. فهؤلاء لا يصوبون على “التغيير والإصلاح” او العدالة، بل على الرئاسة الأولى.. أو على الأقل إمساك القرار في الإنتخابات الرئاسية.. وبذلك يمكن القول ان الصراع على النسبية، هو صراع على الأكثرية وبالتالي فإن الرئاسة هي الهدف!!..