لا تُجْبِروا المسلمين سُنّة وشيعة على معاودة "العدّ"
قد يكون الرئيس الشهيد رفيق الحريري السياسي والزعيم ورجل الدولة المُسلم الوحيد الذي كان صادقاً مئة في المئة عندما قال بعد “اتفاق الطائف”، خصوصاً منذ باشر الممارسة السياسيّة الاحترافيّة بتولّيه رئاسة الحكومة عام 1992، “لقد أوقفنا العد”. وكان يقصد عدّ المُنتمين من مواطنيه إلى الإسلام والمسيحيّة وإلى المذاهب داخل كل منهما. وهدفه من ذلك طمأنة المسيحيّين، الذين ضعفت ديموغرافيّتهم وبدأوا السير الحثيث نحو مرتبة الأقلّية في البلاد، إلى أن دورهم الوطني والسياسي سيبقى محفوظاً بموجب “اتفاق الطائف” والدستور الذي انبثق منه، وسيبقى مؤثّراً. وهدفه الآخر من ذلك إقناع المسلمين بأن وطنهم النهائي لبنان من دون المسيحيّين سيكون دولة عربيّة مُسلمة أخرى في وقت لم تُشكّل معظم دول العالم العربي أنموذجاً يُحتذى، وخصوصاً في الحريّات وفي الديموقراطيّة وإن مُعرّضتين أحياناً عدّة إلى الانتهاك، والانفتاح على الحضارة والتقدّم. وتجربتهم كما اللبنانيّين كلّهم مع الرعاية السوريّة للبنان بتكليف عربي ودولي أوّلاً لوقف حروبه منذ عام 1976، وثانياً لمساعدته على تطبيق “اتفاق الطائف” أواخر عام 1989، لم تكن مُشجّعة إلّا على التمسّك بلبنان وطناً نهائيّاً عربيّاً مُستقلّاً ديموقراطيّاً سيداً. ومثله كان نجله ووريثه في السياسة رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري. علماً أنّه لم يُظهر أنّه مثله في قضايا ومواقف وصفات أخرى يحتاج إليها لبنان اليوم. وقد يكون ذلك أحد أسباب استمرار مآسي اللبنانيّين وهزال دولتهم أو غيابها.
لماذا تناوُل هذا الموضوع اليوم في “الموقف هذا النهار”؟
ليس الهدف طبعاً اتّهام الزعامات السياسيّة والقيادات الدينيّة المُسلمة على تنوّعها بأنّها قد تكون قاب قوسين أو أدنى من المطالبة بالعودة إلى “العدّ”. وهي تُشبه مطالبتها الشاملة الدولة اللبنانية قبل حروب الـ 1975 وتحديداً منذ عام 1958 بإجراء إحصاء سكّاني شامل الهدف منه إظهار أن غالبيّة “الشعب” اللبناني لم تعد مسيحيّة مثلما أظهر إحصاء 1932 الذي أجراه المنتدبون الفرنسيّون، وتالياً أن من حقّها المطالبة بتغييرات في النظام اللبناني تُتيح للمسلمين مشاركة فاعلة ومتوازنة مع الدور المسيحي الذي كان شبه مُطلق الصلاحيّات منذ الاستقلال عام 1943. طبعاً بقي الإحصاء المذكور يتيماً لرفض المسيحيّين جرّاء معرفتهم الواقع الديموغرافي. وبقي الخلل في المشاركة مستمرّاً رغم تغييرات فرضتها أعراف وأحداث داخليّة وإقليميّة. لكنّها لم تكن كافية لمنع بدء الحروب عام 1975 والتي كان تصحيح المشاركة أو ربّما التخلّص من “الحكم المسيحي” أحد أهدافها الكثيرة.
وليس الهدف أيضاً وصف الوزير المصرّف للأعمال معين المرعبي بالتشدّد الإسلامي رغم انفعاليّته الزائدة عن الحدّ أحياناً، علماً أن لا معرفة شخصيّة به، ولا اتّهام القيادات الدينيّة من سُنيّة وشيعيّة بالتراجع عن “الطائف وبالرغبة في العودة إلى “العدّ”، كما أوحت مواقف في اجتماعات مُغلقة وتصريحات علنيّة. بل الهدف هو إعادة تذكير اللبنانيّين بعدما كرّسوا انقسامهم شعوباً أن “وقف العدّ”، كما فهمه الحريري الأب والإبن و”العُقّال” من كل الطوائف وخصوصاً المسيحيّين منهم، ارتبط رسميّاً وعمليّاً بتنفيذ بند في الدستور المُنبثق من الطائف هو إلغاء الطائفيّة وإن “السياسيّة” فقط، وإنشاء مجلس نوّاب غير طائفي ومذهبي بطريقة انتخابه والترشّح لعضويّته، ومجلس شيوخ يُمثّل وبالتساوي الطوائف والمذاهب كلّها. وإلى أن يتم ذلك توزّع المواقع والمناصب في الفئة الأولى بالتساوي وفي الفئات التي تحتها بحسب الكفاءة. أمّا الرئاسات فتبقى موزّعة عُرفاً بين الموارنة والشيعة والسُنّة، لكن ذلك لم يُنفّذ حتّى الآن لسببين معروفين هما إحجام الوصاية السوريّة، صاحبة الكلمة الأولى في لبنان قبل انسحابها منه رسميّاً وليس واقعيّاً عام 2005 عن الدفع لتنفيذه حرصاً على مصالح النظام في دمشق، وخوف اللبنانيّين مسيحيّين وحتّى سُنّة من ذلك تلافياً لسيطرة الشيعة المعتمدين في تعاظم قوّتهم على الديموغرافيا والقوّة العسكريّة ومقاومة احتلال اسرائيل.
يبقى أن الهدف الفعلي من إثارة موضوع “العدّ” اليوم هو تنبيه المسيحيّين إلى مسؤوليّة قسم مُهمّ من قادتهم وتيّاراتهم في دفع المسلمين سُنّة وشيعة إلى المطالبة به شعوراً منهم بغبن حالي قد يزداد في حال استمرّ هؤلاء في تصعيدهم الطائفي. فالسياسة الداخليّة التي ينتهجها رئيس “التيّار الوطني الحر” جبران باسيل المدعومة من مؤسّسه ترمي إلى إعادة المسيحيّين إلى تشدّد قبل الحرب ورفض أي إصلاح ومشاركة بالإستناد إلى شيعة “حزب الله”. وذلك خطر لأنّه يستفزّ السُنّة وقد بدأ يدفعهم إلى سلوك طريق مُشابهة للتي سلكوا منذ 1958، وخطر أيضاً لأنّه يستفزّ الشيعة الذين يستهدفهم لاحقاً. وهذا ما دفع بعضهم إلى انتقاد السياسة المذكورة. وما جرى في أثناء درس قانون الانتخاب ثم في الانتخابات من “صراع” بين “التيّار” و”حزب الله” دليل على ذلك، فهل يريدون توفير أسباب وحدة السُنّة والشيعة لمنع عودة المسيحيّين إلى “الانفراد” بغالبيّة السلطة؟ طبعاً نحن لا نُشجّع خلافهما ونعتقد أن دور المسيحيّين يجب أن يكون التقريب بينهما. لكن لا أحد يلعب هذا الدور اليوم.
في النهاية، قال كاتب “الموقف هذا النهار” أكثر من مرّة منذ أعلن الرئيس الشهيد الحريري وقف “العدّ” فيه وفي وسائل إعلاميّة أخرى أن الوقف مستحيل إذا لم تُطبّق المساواة الفاعلة، ولم تفتح الأبواب أمام الدولة المدنيّة أو العلمانيّة. وانخفاض الديموغرافيا المسيحيّة لن يرحم إذ لن يستطيع المسيحيّون أن يمنعوا استئناف “العدّ” عندما يصبح عددهم في لبنان بين 10 و15 في المئة، سواء استمرّوا في حرمان مواطنيهم المسلمين ما أعطاه لهم “الطائف” أم تخلّوا عنه.