نزار يونس يشهر الحرب على النظام الطائفي الميثاق أو الإنفكاك... الطائف ذلك المجهول
الانطباع الأول الذي يتكون لدى المطلع على عنوان كتاب الدكتور نزار يونس المعنون: "الميثاق او الانفكاك الطائف ذلك المجهول" الصادر في طبعته الأولى عن دار سائر المشرق في تشرين الأول 2021، هو ان هذا الكتاب قد يكون احد المنشورات التي تروج للخروج على وثيقة الوفاق الوطني التي توصل اليها اللبنانيون في مدينة الطائف، او انه احد الكتب التي بدأت تروج للخروج من صيغة لبنان الموحد الى صيغ الفدرالية او الكونفدرالية كما هو دارج لدى البعض الآن. لكن التعمق في صفحات الكتاب المذكور سرعان ما يثبت ان هذا الكتاب هو واحد من اشد المنشورات تمسكاً باتفاق الطائف ودفاعاً عنه، محارباً في وجه صيغة النظام الطائفية والمذهبية ودعوات التخلي عن الوحدة الوطنية اللبنانية.
يمكن اعتبار الكتاب المذكور مرجعاً من المراجع الأساسية في الدفاع والتمسك بصيغة العيش المشترك والواحد بين المسلمين والمسيحيين، وهو من بين اهم المنشورات التي تدافع بعلمية عن صيغة لبنان الفريدة ونظامه الديمقراطي البرلماني.
والكتاب يدعو في العمق الى إعادة النضال من اجل احياء لبنان الواحد الموحد الفريد بصفاته، على ضفة المتوسط والى التخلص من نظام المحاصصة الطائفي الذي افضت اليه الممارسات والتي ترسخ بعضها منذ إقرار اتفاق الطائف.
يبدأ الكتاب في عرض مصارحة قوية واضحة في استعراض حالة الكاتب الذي تسيطر عليه كما يقول "كآبة مرضية" كلما استمع الى مجموعة من الشباب "يتبرمون من سوء الطالع الذي جعلهم يولدون في وطن مهان وعلى ارض لا حرمة لها"(ص9).
وقد اختار الكاتب الثمانيني ان يروي في مقدمة الكتاب كيف ان رئيس اللجنة العليا للتخطيط الدكتور محمد عطالله كلفه عام 1964 حين كان يعمل في وزارة التصميم استقبال بعثة من ثلاثة باحثين شبان قادمة من جزيرة نائية اسمها سنغافورة أتت لبنان للاطلاع على صيغة النظام السياسي الطائفي المتعدد في "بلدنا الذي لا مثيل له في العالم" يومها، والتعرف على نهجه واسلوبه الاقتصادي الذي أتاح لهذا البلد النجاح والتألق في انتاج المعجزة الاقتصادية آنذاك التي كان عليها وليصبح سويسرا الشرق.
كان هدف البعثة الثلاثية حسب رواية الكاتب التعرف على الصيغة اللبنانية الخلاقة آنذاك، اذ كانت الصيغة اللبنانية تبدو في ذلك الزمان صيغة خلاقة وناجحة. وأتت البعثة السنغافورية للتعرف على التجربة اللبنانية المتقدمة اقتصادياً في ذلك الزمان لاتباعها والعمل وفقاً لها!
الكاتب يعود ويشير الى ان هذه الجزيرة كانت تطمح لتقليد النجاح اللبناني والتشبه به آنذاك، بالرغم من مواردها الضعيفة وامكاناتها المتواضعة وتركيبتها المعقدة، لكنها عادت وسارت بطريق نجاح استثنائي حيث تحولت واحدة من أكثر دول العالم ثروة ونمواً اقتصاديا وأمناً واستقراراً وعدالة اجتماعية، فيما تحول لبنان الى خراب والى الجحيم الأسفل على حد تعبيره. (ص13).
في المدخل الى الكتاب يستعيد المؤلف محاضرة ألقاها في العام 1980 بدعوة من الجبهة الموحدة لرأس بيروت وقد اعتبر فيها ان علة لبنان تكمن في نظامه الطائفي وهو الحائل دون قيام الدولة ليعود ويؤكد ان هذا ما حصل اجماع حوله في مؤتمرالوفاق الوطني في الطائف الذي اقر ان التخلي عن النظام السياسي الطائفي هو السبيل الوحيد الى قيام الدولة، دولة لبنان الكبير الموعودة (ص22).
يتوقف الكاتب امام نقطة مهمة يعتبرها من النقاط المفصلية في المشكلة اللبنانية وهي التي ظهرت في دستور 1926 وتحديداً في 12 تشرين الأول 1926، حين أُعلن القانون الدستوري للجمهورية اللبنانية الذي أعدته لجنة ترأسها ميشال شيحا النائب عن بيروت وتضمنت المادة 95 من الدستور نصاً أثار الكثير من الجدل يومها وهو النص الذي يقول: "بصورة موقتة، وعملاً بالمادة الأولى من صك الانتداب والتماساً للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة، وفي تشكيل الوزارة، من دون ان يؤول الى الاضرار بمصلحة الوطن.
هنا يعتبر المؤلف ان هذا النص هو الذي سمح بغرس جرثومة الطائفية الفتاكة التي ألحقت بالوطن الناشئ المذلة والعار(ص21).
واعتبر ان قطار الجمهورية قد انطلق في الاتجاه المعاكس من اعتماد الطائفية بشكل موقت الى تقاسم السلطة على مبدأ التقاسم الطائفي في ظل هيمنة الطائفة المارونية على قرارها، 1949 - 1969. هذا ما أدى الى نظام التحاصص الطائفي والمذهبي الذي قضى حسب تعبيره، على أي وجود للدولة والذي تم ارساؤه عقب الانقلاب الاجرامي على ميثاق الطائف خلال حقبة الوصاية، في ظل الوجود السوري الامني والعسكري اللاشرعي وقاد الى الانهيار المريع 2019- 2020.
ويقول الكاتب في تشخيص وتحديد للمشكلة:" أدى تفشي الوباء الطائفي خلال جميع هذه الحقبات ورعايته من قبل السلطات اللاشرعية الى اقصاء النخب الوطنية الثقافية والتقدمية الرافضة للتقاسم الطائفي ولمبدأ توزيع المناصب على المواقع الطائفية والى ابعادها قسرا عن المشاركة في الشأن العام وبالتالي الى الغاء الحياة السياسية. (ص32). ويتابع: لو قيض حينذاك لقطار الجمهورية الانطلاق في الاتجاه الصحيح نحو دولة المواطنة لما كان لهذه القوى الطفيلية ان تتجذر وتتحول بعد الاستقلال الى مؤسسة طائفية تحورت بدورها بعد الانقلاب على ميثاق الطائف الى منظومة للتحاصص الطائفي تتحكم حتى يومنا هذا بأقدار الوطن بالذهنية العثمانية البائدة.( ص31).
في الفصل الثاني من الكتاب يستعرض المؤلف أسباب الضياع والفرصة الضائعة التي تمثلت بالاستقلال، ويقول: شكلت " قومة" الاستقلال انتفاضة جسدت وحدة الشعب ورفضه المشاريع الطائفية القائمة على الترويج للانقسامات حيال الهويات الماضوية المتخيلة. ويعتبر انه كان يجب الغاء المادة 95 من الدستور وإقرار قانون انتخاب خارج القيد الطائفي يوفر صحة التمثيل والتوازن بين جناحي الوطن ويوفر المساواة بين المواطنين لإنتاج سلطة يشارك فيها كل مكونات المجتمع اللبناني على قدم المساواة بين المواطنين.
ينتقد المؤلف الحقبة التي تلت انتخابات 1947 وما اطلق عليه تسمية هيمنة المارونية السياسية وتجديد ولاية بشارة الخوري مما فاقم الانقسامات الطائفية ( ص37).
يعرض المؤلف كيف كانت انطلاقة الميثاق الوطني عام 1943 وكيف انطلق من سلبيتين. لا للوحدة مع سوريا من قبل المسلمين تقابله لا للانتداب الفرنسي من قبل المسيحيين مما أتاح للبنان ان يكون وطن العيش المشترك النفيس.
اتفاق الطائف في السعودية 1989
ويميز الكاتب هنا بين نوعين من الديمقراطية. أولى يسميها "الديمقراطية الوفاقية"، وثانية يسميها "التوافقية". ويرى ان "الوفاقية" هي اللبنة الأهم في الميثاق المؤسس للوفاق على صيغة النظام المكرس في دستور الدول التعددية للعيش المشترك والعيش معا لا على التوافق بين المذاهب على كل قرار ما يشل السلطة ويعيدها الى شريعة الغاب.
واعتبر انه كان من الطبيعي ان تتحول الصيغة الطائفية لما قبل الطائف الى نظام عشائري متخلف يشرذم بلادنا ويقزمها ويخربها ويصبح خطراً لا على كياننا وحسب ولكن على كيان المجتمع ذي التنوع السكاني لتفادي اصابته بالوباء القاتل.
وعن ميثاق الطائف يقول مدافعا: "اما ميثاق الطائف فهو عقد تأسيسي لقيام الدولة اللاطائفية تعترف به سائر المرجعيات الدولية. فلا إشكالية في قانونية ونهائية وطبيعة الميثاقية. وربما كانت هذه الطبيعة الميثاقية نفسها الدافع وراء مؤامرة تشويه أهدافه وتعطيل تنفيذه من قبل سلطة الوصاية والدس الخبيث من قبل المغرر بهم والمنظرين والمأجورين.
ثم يعرض لأهمية الميثاق الذي أقر في الطائف ويشرح بنوده كافة.
يعرض المؤلف في كتابه رأياً متقدماً جداً في ما يتعلق بطائفية المراكز الرئاسية. وهو يقول ان التوازن بين جناحي الوطن يقتضي تحرر رئاسة الجمهورية من ملكية الطوائف ويدخل الكاتب في نقاش صلاحيات رئيس الجمهورية ليقول: "هنالك رأي سائد لدى اللبنانيين ولا سيما المسيحيين بعد تجربة أربعة عهود رئاسية ان مركز رئاسة الجمهورية قد خسر أهميته وأصبح ثانوياً فاقد الوزن والصلاحيات، ويعتبر ان هذا الرأي ليس صائباً في الأساس ولا يمت الى الحقيقة بأي صلة لأن مركز الرئاسة لم يفقد أهميته، عدا عن ان الميثاق لم يخصص هذا الموقع او أي موقع سواه في السلطات الدستورية للطائفة المارونية او لأي طائفة من الطوائف والمذاهب.
ويقول: الميثاق لم يقر الا عرفاً واحداً وهو التوازن بين جناحي الوطن للحفاظ على دور لبنان وخصوصيته. فهو يجيز انتخاب أي لبناني لأي مركز في السلطة بمعزل عن انتمائه الديني. وكل ادعاء آخر مضلل وكاذب. ( ص205). وفي المقابل فالرأي الشائع الذي يعتبر الدستور المعمول به حاليا بكل مندرجاته ميثاقاً مقدساً يجانب الحقيقة وقد لا يكون مجرداً او نزيهاً.
في المحصلة يعتبر المؤلف ان الطريق الى الدولة يجب ان يمر بقانون انتخابات تمثيلي وان قانون الانتخاب هو الشأن الأهم لإصلاح واقعنا السياسي لأنه القضية المركزية التي تحكم سواها من القضايا ولأنه الأداة المعول عليها لاختيار أعضاء الندوة النيابية المسؤولة عن انتاج سلطة سياسية مدنية عصرية تصون وحدة الشعب، وهو المؤسس لدولة المواطنة.
يقول المؤلف عن اتفاق الطائف: أقر المؤتمرون في الطائف ميثاقاً تاريخياً للوفاق بين اللبنانيين الذين مزقتهم الحرب العبثية قضى بالتخلي عن النظام الطائفي البغيض والعودة الى المرتكزات التأسيسية لدولة لبنان الكبير والى خصوصية وطنهم التاريخية القائمة على الشراكة والحضور المتوازن لجناحي الوطن في دولة لاطائفية محررة من التقاسم والتحاصص.
في المحصلة ينحاز المؤلف الى جانب شابات وشباب لبنان الذين انتفضوا في 17 تشرين 2019 ويقول: "غدت الثورة التي كشفت عورة النظام الطائفي اللاشرعي قدرنا وما زلت اعتقد على الرغم من الضجيج في الفراغ والاحباط ان الثورة السلمية المدركة والهادفة ما زالت السبيل الوحيد الى انقاذ وطننا وإعادة تشكيل الحياة السياسية الديمقراطية من رحم المجتمع المدني وان الوقت حان لاحياء ميثاق الطائف واعتماده نبراسا يضيء طريق العبور الى الدولة اللاطائفية والتحرر من الوباء الخبيث على الرغم من المنظومة المتهاوية التي تبث السموم الطائفية والتنافس على تفشيها في اذهان العديد من المواطنين السذّج.
تحت عنوان الطائفية وهم ام جريمة مدبرة؟
يعرض المؤلف لتجربته الشخصية التي تركت أثراً في نفسه في المدرسة حين كان تلميذا في مدرسة عينطورة في المرحلة التكميلية حيث دار حوار بينه وبين زميله في المدرسة نظير الحسامي الذي انتقده بشكل لطيف حين كتب موضوع انشاء تحدث فيه عن مجد لبنان وطن الموارنة الذين لهم فيه كل المناصب والثروات. فقال له: "كيف ابتهج لكلامك عن وطن لا يحق لي ان أكون فيه مثل أي واحد منكم رئيساً او قائداً للجيش؟(ص276). ويبدو ان هذا النقاش قد ترك أثراً في نفس الكاتب وأثر على قناعاته السياسية والفكرية ليقول: قادتني قناعاتي الى رفض نظام المحاصصة وفدرالية الطوائف والى رفض التعصب والتزمت وآمنت بأن الوطن لنا جميعا.
كتاب نزار يونس من الكتب المهمة التي تطرح قضية العيش المشترك طرحاً جديداً وقضية الدولة المدنية طرحاً قوياً، والاطلاع عليه يفيد ويقدم رؤية جديدة في نقاط جدلية متعددة، ومن الضروري تعميم مضمونه لأنه يعمم الفائدة على المواطنين في دولة واحدة.