اجتهادات غير دستورية لدستور يُطيح به مَن أقسم عليه!
تعتبر دساتير الدول، بإجماع الفقهاء القانونيين، هي القانون الأعلى والأسمى في أيّ دولة، حيّث يفترض أن تكون جميع النصوص القانونية والقواعد التطبيقية، التي تنظم عمل الدولة بكلّ مؤسساتها الدستورية وإداراتها العامّة، مطابقة وملائمة لدستور الدولة، وبالتالي أيّ قوانين تخالف أحكام الدستور، وإن أُقرّت من قبل السلطة التشريعية، فإنّها عرضة للإبطال لدى المحكمة المختصة...
فالقاعدة الثابتة، إنّ الدستور هو القانون، يعلو كلّ ما عداه من القوانين، وبالتالي يجب التقيّد في تطبيق أحكامه بالأصول التي تحكم تطبيق مختلف النصوص القانونية، بشكل آمر وملزم، دون أيّ إجتهاد أو تنظير، متى كانت مواده واضحة وحاسمة، ولا تحتمل في تفسيرها أيّ جدل أو إختلاف.
أما في حال بروز حالات إستثنائية (عادة ما تكون نادرة) غفل عنها الدستور، أو يكتنفها بعض الغموض، فإنّ ذلك يقتضي على المشرّع أو المحكمة الدستورية المختصة، التعاطي مع هذه الحالات بما لا يتناقض مع أحكام الدستور ومع نصوصه، وذلك من خلال استنباط إجتهادات تعالج «الثغرة» (في حدود التفسير الاجتهادي الضيق)، من دون التعارض مع الدستور، بل أن تكون مكمّلة له، تحقيقاً للهدف المرجو...
****
الهدف من هذه المقدمة ليس التنظير القانوني، بل الإضاءة الموضوعية المتجردة لأصول فهم مفاعيل الدستور الإلزامية.
وتبرز أهمية ذلك، أمام التلويح والتلميح من قبل دوائر قصر بعبدا، بإمكانية إنقلاب رئيس الجمهورية قبيل إنتهاء ولايته على الدستور، في حال عجز مجلس النواب عن انتخاب رئيس خلفاً له (تبعاً للمادة 73 من الدستور)، متسلحاً بإجتهادات «جريصاتيّة» غير دستورية بإبطال وسحب التكليف الذي منحته الكتل النيابية، وفقاً للاستشارات الملزمة المنصوص عنها في الدستور، بتكليف الرئيس نجيب ميقاتي لتأليف الحكومة، خلفاً للحكومة المستقيلة، الملزَمة بتصريف الأعمال!
فلم يعد خافياً على أحد، أنّ الغاية من هذه الخطوة الإنتحارية، أن يقدم الرئيس ميشال عون على تشكيل حكومة أمر واقع، يكون فيها صهره رئيساً لها بمنصب وزير «فوق العادة»(!)، بعدما فَقدَ أيّ أمل له بأن يخلف عمه، للتجديد للعهد «القوي»، من خلال الرئيس الفعلي هذه المرة (إشباعاً لشهوته وغريزته السلطوية)، طالما أنّ شؤون الرئاسة كانت تدار طيلة السنوات الست، بالوكالة من «ميرنا الشالوحي»!!!
إن إصرار وإمعان الرئيس عون على العبث بالدستور «المنهك» وإزدراء النظام اللبناني «المهدّد»، مردّه إلى الرهان الدائم منذ أن وقّع إتفاق «مار مخايل» على شريكه، الذي يجيد بحكم أنه جزء من المحور الذي ينتمي إليه، الإفادة من أيّ تحولات أو تطورات إقليمية، من شأنها تغيير قواعد اللعبة، وبالتالي إنعكاسها على الداخل اللبناني، فتعيد إحياء آمال «الصهر المدلل» بالرئاسة، في زمن يكثر فيه الكلام عن حكم الأقليات في المنطقة.
****
في هذا السياق، السؤال الجدلي الذي يفرض نفسه، يكمن حول مدى صلاحية حكومة تصريف أعمال في ملء الشغور في رئاسة الجمهورية، وأن تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية، على أهميتها وخطورتها، في حال حدوثه، (وهذا ما هو مرجح، تبعاً للمواقف الخلافية والمتناقضة حيال الإستحقاق الرئاسي محلياً وخارجياً)؟
إن الإجابة ببُعديها الوطني والدستوري على هذا السؤال، تقطع الطريق أمام أيّ «هرطقة» قانونية تتعلّق بسحب التكليف من الرئيس نجيب ميقاتي، متى اتضح أنّ الدستور يمنح الحكومة المستقيلة وكالة صلاحيات رئاسة الجمهورية، في حال شغورها.
ونظراً لدقة وحساسية الموضوع، فإنّ الإجابة تقتضي أن تكون محض قانونية، بعيداً عن أيّ انفعالات وتفاعلات سياسية.
الجواب على ذلك يكون بالعودة إلى نصوص الدستور، وفقاً للقواعد العامّة في التفسير، وهو ما أشار إليه الدستور في المادة 62 بقولها: «في حال خلو سدة الرئاسة لأيّ علّة كانت، تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء».
ويعزّز هذا التوجه مطالعة قانونية - دستورية للوزير وعضو المجلس الدستوري السابق القاضي الدكتور خالد قباني، عالجت هذه الإشكالية بتأكيده: «يعود للحكومة بل ينبغي عليها أن تستمر بممارسة أعمالها، استناداً الى نصّ الدستور، ووفقاً للمادة 64 فقرة 2، وبالمعنى الضيق لتصريف الأعمال، بما في ذلك المهام المناطة دستورياً برئيس الجمهورية، كما لو كانت حكومة تعمل دون شغور منصب رئاسة الجمهورية.
وفي هذه الحالة يمارس مجلس الوزراء صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة ووفقاً لنظامه، أي وفقاً للنظام المتّبع في جلسات مجلس الوزراء، أو في طريقة التصويت على القرارات، أو في التوقيع عليها، تطبيقاً لما نصّت عليه المادة 65 من الدستور، لأن الحكم الذي يسري عليها، في الحالتين، حالة الشغور في منصب الرئاسة الأولى، أو وجود حكومة تصريف أعمال، هو مبدأ استمرارية عمل السلطات والمرافق العامة الذي رفعه المجلس الدستوري في فرنسا، ومن ثمّ في لبنان الى مرتبة المبدأ الذي يتمتّع بقيمة دستورية، وجاءت الأعراف والسوابق الدستورية في لبنان، لتؤكد على المنحى الذي سار عليه الفقه والاجتهاد...».
وفي نفس السياق، اعتبر الدكتور زهير شكر في موسوعته القانونية (الوسيط في القانون الدستوري اللبناني): «أنه إذا صادف الشغور الرئاسي وجود حكومة مستقيلة، فإن هذه الأخيرة تسترد كامل صلاحياتها، إن بسبب الحفاظ على إستمرارية المؤسسات الدستورية وتوازنها، أو لأن مرسوم قبول الإستقالة لم يكن صادراً عند الشغور، فلا تترتب على الحكومة أية إلتزامات...».
ومن جهته، يرى الأستاذ محمد فياض مشيك، في مؤلفه «صلاحيات مجلس الوزراء بين النصّ الدستوري والممارسة العملية»: «يحق لحكومة مستقيلة أن تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية في حالة الشغور، إستناداً إلى نظرية الظروف الإستثنائية التي تفترض إستمرار المؤسسات الدستورية، إذا كان ثمة ظروف إستثنائية تحول دون إجراء انتخابات جديدة، يمكن لحكومة مستقيلة أن تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية في حالة الشغور. وترمي نظرية الظروف الإستثنائية في جوهرها إلى توسّع صلاحيات السلطات الإدارية بالقدر اللازم حتى تتمكن من إتخاذ الإجراءات التي يفرضها الطابع الإستثنائي للظروف. (نشأت هذه النظرية في البداية تحت تسمية «نظرية صلاحيات الحرب» من قرارين لمجلس شورى الدولة الفرنسي مرتبطين بظروف الحرب الأولى)...».
يستفاد من هذه المقاربات لثلاثة من كبار فقهاء القانون في لبنان، أنّ إستمرار حكومة تصريف الأعمال في ممارسة مهامها، وخاصة في ظل شغور سدة الرئاسة، ينسجم مع مبدأ الحفاظ على النظام القانوني، ومبدأ إستمرار عمل المؤسسات العامّة، ومبدأ إستمرار الدولة ذاتها، وتحاشياً للوقوع في الفراغ الدستوري أو في فراغ الحكم، وحرصاً على سلامة الدولة، وسلامة المؤسسات والإدارات العامّة.
****
أمام المخاطر التي تهدّد لبنان في وجوده، وإزاء هذا الجنون السياسي، لا بدّ من صياغة موقف وطني موحّد يتصدى لتطاول رئيس الجمهوريّة وفريقه السياسي والإستشاري على النّظام والدستور ورئاسة الحكومة، ليس بهدف حماية وصون موقع الرئاسة الثالثة بخلفية مذهبية شعبوية، بل بهدف إستعادة التمسّك بالدستور، والمحافظة على ما تبقّى من نظامنا الديمقراطي البرلماني، الذي وحده القادر على حماية لبنان من أيّ شكل من أشكال «الفدرلة».
وهنا لا بدّ من موقف وطني تاريخي حاسم في هذا الإتجاه من قبل القادة المسيحيين العقلاء (وهم الأكثرية) الحريصين على لبنان «النموذج والرسالة»، وفي مقدمهم البطركية المارونية، كما عهدناها في المحطات المفصلية، حيث أنّ الإكتفاء بموقف المتفرّج على تجاوزات الرئيس عون للدّستور، تحت عنوان: «إستعادة حقوق المسيحيين»(!) سيحمل الويلات على المسيحيين والمسلمين على حدٍّ سواء، واستطراداً على الوطن بأكمله، لأنّ سلوكه المتهور بعيد كلّ البُعد عن دوره كحارس للدستور الذي أقسم بالحفاظ عليه.