حلم الصلاحيات قبل الطائف وبعده: رؤساء أقوياء أم رئاسة قوية؟

النوع: 

 

اختلفت مقاربات السياسيين لتوصيف الرئيس القوي. انطلق عون من امتلاكه عام 2005 الأكثرية المسيحية النيابية. ورغم تبدل معطيات الانتخابات والقاعدة العونية وأسباب فوز تياره بكتلته النيابية من خلال تحالفاته، حاول أن ينقل تجربة الزعيم القوي الى قصر بعبدا، علماً أنه حاول الاتكاء على موقفه التقليدي الرافض لاتفاق الطائف ومطالبته بتعديل صلاحيات رئيس الجمهورية. أهم صلاحية بقيت لرئيس الجمهورية هي صلاحية الحرد والتوقيع الأخير لتأليف الحكومة وتركيب السلطة، لكن عون اتّهم باستخدامها بطريقة خاطئة، لغايات فئوية وشخصية، فأفقد الرئاسة وهج هذه الصلاحية وأهميتها. تصادمت فكرة الزعيم القوي والرئيس القوي في ست سنوات. لم يخرج عون من عباءة القائد والزعيم، ليصبح رئيساً قوياً. واتّهم بأنه يتّكئ على قوة حزب الله في فرض أعراف جديدة. هو الرئيس الذي عاكسته الظروف كذلك، فانهار عهده على مشارف التظاهرات وانفجار المرفأ وانهيار اقتصادي غير مسبوق. لكن عون ظلّ معانداً، محاولاً تثبيت نظرية الرئيس القوي في طائفته وبيئته في اختيار خليفته، ولم ينجح إلا في فرض إيقاعه على الرئاسة التي رفض اختصارها أو إجراء انتخابات مبكرة قبل نهاية عهده. مرة أخرى تصبح الرئاسة الأولى في نزاع متجدد ويحيط بها الخطر، حيث لم يعد التمسك بفكرة الرئيس القوي خياراً ناجحاً ومفيداً، حين لن تبقى جمهورية كي يدافع عنها رئيسها.

يخرج رئيس الجمهورية العماد ميشال عون من قصر بعبدا بعد ست سنوات من دخوله الثاني إليه، وبعد ثلاث وثلاثين سنة من دخوله الأول عام 1989. بين المرحلتين تغيّر الرجل الذي حرّك الساحة السياسية على مدى ثلاثة عقود، وحصد عداوات فيها كما صداقات وحلفاء، وبقي له مريدون ومخلصون وقواعد شعبية تهتف باسمه. وهو إذ يستعد للخروج بسلاسة من دون قصف مدفعي ولا هدير طائرات تحلّق فوق القصر الرئاسي، يحمل معه إرث سنواته التسعين والعواصف السياسية والأمنية التي عاشها من القصر إلى القصر.

لمدة ست سنوات حكم عون من قصر بعبدا، لكنّ قلبه ظلّ في الرابية. والرابية، هنا، بالمعنى السياسي للمنفيّ في باريس والعائد بعد خمس عشرة سنة ليخوض أشرس معاركه السياسية ويحقّق حلم الرئاسة، «منتقماً» من الماضي الذي «لم يستطع أن يسحقه». فكان جنرال الرابية الذي فاوض وعرقل أو سهّل تشكيل حكومات، ووافق على اتفاق الدوحة وقوانين الانتخاب، وخاض الانتخابات وخرج منها بأكثرية نيابية مسيحية عام 2005 ثم في عام 2009. وفي كل ذلك، طغى إطار زعامة تكتل التغيير والإصلاح على رئيس الجمهورية، كما طغت عليه صفة قائد الجيش حين أصبح رئيساً للحكومة بعد انتهاء عهد الرئيس أمين الجميل.

هو ابن حارة حريك أولاً وآخراً، وقائد الجيش ورئيس حكومة انتقالية، أتى رئيس تسوية ضمنها الرئيس سعد الحريري والقوات اللبنانية، وكان كفيلها الأول حزب الله. لكنه أمضى سنواته الست وهو يتصارع مع الثلاثة، فخرج الأول من السياسة قبل أن يخرج عون من بعبدا، وانكفأت القوات اللبنانية عنه فانفرط عقد المصالحة المسيحية. أما الثالث، فهو الحليف الذي حفظ وعده له، من دون أن تسلم علاقتهما من مدّ وجزر وتباين في الرؤية حول ملفات شائكة. إلا أن التفاهم بقي قائماً بمفعول لا يبدو أنه سينتهي مع وريثه رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل في 31 تشرين الأول.

على الطريق إلى القصر الجمهوري، وخلال وجوده فيه وحتى لحظة خروجه منه، كان عون مزيجاً من رئيس تساوت فيه لدى محبّيه وخصومه صفات: الجرأة والتهور، الإقدام والإحجام، الجنوح نحو معسكر 8 آذار وتفاهم مار مخايل، والتمسك بالحقوق المسيحية كأعتق المسيحيين، المدافع الشرس عن الجمهورية الثانية والمؤيد لإلغاء الطائف وبناء الجمهورية الثالثة، من طوى صفحة الخصومات المسيحية والسنية، ونبش قبورها مجدداً، الرجل الذي أراد بناء دولة، والرئيس الذي وصل إلى القصر فاستكان إليه ولم يبادر إلى ما يُخرِج البلد من أزمته الطويلة، حليف سوريا التي لم يزرها خلال ولايته، حليف حزب الله لكنه لم يذهب إلى طهران، بدأ عهده برحلة إلى السعودية، وختمه بانفراط عقد السُّنّة عنه، دافع عن الرئيس سعد الحريري حين قدّم استقالته من السعودية، ووقف ضده ولم يسهّل توليه رئاسة الحكومة مرة ثالثة في عهده. وهو الرئيس الذي وصل على تنسيق مع ثاني قوة مسيحية، يخرج من القصر على عداوة متجدّدة معها، يزيدها إلى رصيد من عداوات تفاقمت خلال ست سنوات. اختلف مع رئيس مجلس النواب ومع رؤساء الحكومات، ولم يستطع أن يؤمّن حضوراً دولياً وإقليمياً كما كانت حال انطلاقة عهده.

في القصر، وخلال ست سنوات، سقط كثيرون من حول عون، وابتعد عنه البعض أو أن بعض المقرّبين منه أبعدوا البعض الآخر، من أفراد عائلته ومن مستشاريه ومن وزراء سابقين ونواب وقياديين في التيار العاصف بخلافات داخلية. منذ أول مؤتمر صحافي عقده في أوائل التسعينيات في قصر بعبدا وصولاً إلى باريس ومن ثم إلى الرابية فبعبدا، لم يتغير أسلوب عون، ولا تغيّرت لهجته ولا الملفات التي يحفظها جيداً أو يعود إلى أوراقه ليؤكد صحة أقواله على مدى سنوات. لكن تغيّرت كثير من القضايا التي دافع عنها، وبدّل حلفاء له وأصدقاء. الثابتة الوحيدة في المسار المتحرك، على مدى سنواته رئيساً للتكتل ونائباً من ثم رئيساً للجمهورية، علاقته بصهره رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. لا يقبل عنه شكوى منذ سنوات ولا يرد طلباً له، ويعود إليه في الشاردة والواردة، بخلاف سنوات عودته الأولى التي كان لعون وحده حق القرار الأخير. وباسيل كان دائماً يردد أن الكلمة الأخيرة لعون ويخطئ من يظن العكس. وفي هذه النقطة كان باسيل على حق. لكنّ عون في بعبدا، تشارك في القرارات مع باسيل، وكان رئيساً للجمهورية محاطاً بحلقة صارت تضيق سنة بعد أخرى.

الكاتب: 
هيام القصيفي
التاريخ: 
الخميس, سبتمبر 22, 2022
ملخص: 
حاول أن ينقل تجربة الزعيم القوي الى قصر بعبدا، علماً أنه حاول الاتكاء على موقفه التقليدي الرافض لاتفاق الطائف ومطالبته بتعديل صلاحيات رئيس الجمهورية. أهم صلاحية بقيت لرئيس الجمهورية هي صلاحية الحرد والتوقيع الأخير لتأليف الحكومة وتركيب السلطة