هل هي أزمة نظام أم أزمة عدم تطبيق النظام؟
شكّل منتدى اتفاق الطائف في ذكراه الـ33 الذي عُقد في قصر الأونيسكو بدعوة من السفير السعودي وليد بخاري حدثاً سياسياً بالغ الأهمية في فترة تحفل بها الساحة اللبنانية بإستحقاقات غاية في الخطورة، ولعل الحضور الكثيف والمتنوّع والمواقف السياسية الواضحة التي أطلقت من عدة أطراف عربية ومحلية، تركت آثاراً بارزة لا زالت تردّداتها تطفو على سطح العملية السياسية اللبنانية المعقّدة.
قد تكون المواقف التي صدرت على لسان أكثر من شخص شارك في أعمال المنتدى قد حدّدت البوصلة السياسية لعدد من القوى الفاعلة على الساحة اللبنانية، فأولى الإشارات الإيجابية تمثّلت في انعقاد المنتدى على أرض بيروت وبتنظيم متميّز من سفارة المملكة العربية السعودية وجهود غير عادية من سفيرها الدبلوماسي الفذ، ولعلّ ما قاله السفير بخاري وتحديداً لجهة ما نقله عن موقف الرئيس ماكرون بخصوص اتفاق الطائف وما حكي عن تعديله قد حسم الجدل نهائياً حول أي جهد أو مسعى أوروبي لتعديل إتفاق الطائف، وأكد بالتالي عودة الاهتمام السعودي بالشأن اللبناني - وهو لم يغب أصلاً - وحَفَل المنتدى بإيجابيات عديدة إضافة الى ما ذكر أعلاه، خاصة لجهة كثافة الحضور الرسمي ناهيك عن الشعبي.
تكاد تكون المواقف قد أجمعت على مرجعية اتفاق الطائف ومركزيته في رسم سياسة لبنان المستقبلية، خاصة وأنّ العديد من بنوده لم تُطبّق فعلياً كما تبيَّن من مجمل مداخلات الحضور، وهنا تبدو الإشكالية الأساسية والإشكاليات المتفرّعة عنها التي يتوجّب الحديث عنها : فهل اتفاق الطائف يحتاج الى تعديل؟ أو أنّ الممارسة السياسية الخاطئة هي التي شوّهت تطبيقه؟ وماذا عن دور الخارج؟ وأين يمكن الحديث عن فائض القوة في تعديل التوازنات وأثره على تطبيق اتفاق الطائف أو حسن تطبيقه؟
كل هذه الأسئلة تراود الجميع في لبنان، وتُشكَّل مدار البحث في كافة اللقاءات والحوارات، لكن الإجابة عن تلك التساؤلات قد لا تكفي وحدها، والمطلوب قبل كل شيء التأكيد على أنّ أي تعديلا دستوريا مرتبطا بتركيبة النظام اللبناني لا يمكن أن يتمّ إلا بالتوافق بين اللبنانيين، ودون سطوة أو استقواء من أحد على الآخر أو الآخرين، فمنذ العام 1840 مروراً بالعام 1860 وصولاً لأحداث العام 1958 وبعدها حرب العام 1975، كانت تلك النزاعات نتيجة اختلال التوازن الداخلي، ما أسفر عن حروب ساهمت في تشكيل طبيعة النظام اللبناني مع الإشارة الى أن المقصود بإدخال أحداث القرن التاسع عشر هو في سياق التدخّل الأجنبي في الداخل اللبناني ليس إلّا، ولتأكيد أنّ التعديلات على طبيعة الحكم إنما تمّت بتدخّل خارجي وتحت ضغط الصراعات المسلحة.
تعدّدت الآراء المطالبة بتعديل الدستور اللبناني مستعينة بحجج عديدة، منها ما تذرّع بصلاحيات رئيس الجمهورية المُنتقَصة، وقد تكون هي أكثر المطالبات حدّة حتى وصل الأمر بأحدهم الى المطالبة بالعودة لنظام ما قبل الطائف، متناسياً أو غافلاً أنّ اتفاق الطائف هو ثمرة توافق محلي، دولي وعربي، بل أكثر من ذلك هو استكمال أو تتويج لمطالبات بدأت منذ قيام الجمهورية وإعلان الدستور في العام 1926، فلا يمكن الحديث عن الطائف دون التطرّق الى ما سبقه في جنيف ولوزان والإتفاق الثلاثي المعيوب، وما تخلّل تلك المؤتمرات من أوراق إصلاحية قُّدمت من أكثر من فريق، وعليه فإن العودة الى صيغة الحكم التي كانت قائمة ما قبل الطائف هي مستحيلة، والمراد منها تحسين شروط التفاوض ليس أكثر.
قبل الحديث عن تعديل دستوري يتعلّق بما ورد من إصلاحات أُقرّت في وثيقة الوفاق الوطني، يقتضي إنفاذ مضمون تلك الوثيقة وإتمام ما تضمّنته من إصلاحات، قبل مناقشة أمور بنيوية، ولعله ممن المفيد التذكير أن أي مطالبة من أي جهة كانت بأي تعديل دستوري وفي ظل نظام قائم على المذهبية الحادّة لن يكتب لها النجاح ومأموري الأحراج خير مثال وغيره الكثير.
بعد انتهاء عهد الرئيس عون قد تكون الفرصة سانحة في حال حصول توافق جدّي على إخراج البلاد من أزماتها، للبدء في ممارسة سياسية واضحة وصحيحة، مقرونة بواقعية سياسية، ويبقى الأهم أن أي تعديلا دستوريا إنما يقتضي ممارسة صحيحة في الحكم أولاً وإعادة البوصلة السياسية اللبنانية تجاه الأشقاء العرب الى مسارها الصحيح.