ذكرى إقرار الطائف: “صيغة ثوابت”… أين تطبيقها؟
يضيء اتفاق الطائف “شمعة إضافية” من سنين إقراره بعدما انبثقت ولادته في 22 تشرين الأول 1989 مساهماً في إنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، لكنّه ما لبث أن ترعرع في كنف ظروفٍ صعبة حالت من دون تنفيذ غالبية بنوده الباحثة عن “بصيص ضوء” تطبيقيّ تُخرج لبنان من النفق الحالك. وإذا أراد المتعمّقون والمعاصرون أن يحكوا ويحاكوا جوهر ما تبقّى من وثيقة الوفاق الوطني في ذكرى تنقيحها، فإنّهم لا يتردّدون في التأكيد على أنّ ما بقي من الطائف هو “كلّ شيء”… رغم أنّه لم يَبقَ من شيءٍ على المستوى التنفيذيّ. والحال هو، بـ” أيّ حالٍ عُدْتَ يا عيد” في غياب احترام الأسس الدستورية والالتزام بها و”تشريد” استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية… ودولة لا تملك رُمْح قرار حربها وراية سلامها. لكن، هناك معادلة ممزوجة بين اطمئنان وارتياع على حدّ سواء في انطباعات المراقبين والخبراء الدستوريين المؤيّدين لضرورة التمسّك بالصيغة، لأنّ بين اللاشيء الذي لا يُطبَّق والكُلّ الذي حريٌّ تطبيقه، يقف لبنان على مفترق الوجود في مرحلة دقيقة. وكأنّ المندرجات الدستورية أشبه بـ”كيانية لبنان” التي تكون أو لا تكون.
الانطلاقة ممّا تُجمع عليه المقاربات فحواها التأكيد على أهمية اتفاق الطائف الذي “لم ينفَّذ أيّ شيء من جوهره… وما نُفّذ يعاكس تماماً مضامينه ويخالف نصوصه”، بحسب السرد التعبيري للباحث الدكتور نزار يونس، الذي تتضمّن إضاءاته التأكيد على أنّ اتفاق الطائف قرّر ما هي #الجمهورية اللبنانية ومعناها “العيش معاً” ضمن الوطن، وهذا ما نُقل إلى مقدّمة الدستور اللبناني وصار بمثابة العقد التأسيسي لقيام الوطن اللبناني على أساس اللاطائفية. لكن، الطائف لم يُطبَّق وعاش اللبنانيون ولا يزالوا في “دولة مافيا”، على ما يسمّيها، إذ لا دولة ولا معرفة لدى اللبنانيين أنهم يعيشون في اللادولة… وهنا تكمن المشكلة الكبرى. وليست هناك دولة موجودة لمحاسبتها، لا من قريب أو من بعيد. ولا يمكن المافيات أن تبني دولة لأنها تتشكل من “أناسٍ لديهم مصالح مشتركة ويريدون استجماع قواهم للأخذ من الخير العام الموجود في الآخرين”. وفي تعليل مصطلح “لم يُطبَّق”، فإنّ يونس، وهو صاحب كتاب “الميثاق أو الانفكاك، الطائف ذلك المجهول”، يضيف، في سياق حديثه لـ”النهار” أن الطائف يريد دولة علمانية، وليس فقط إلغاء الطائفية السياسية. وينصّ في المادة 95 بمقدمة الدستور على اعتبار إلغاء الطائفية السياسية هدفاً.
إذا أُريد اختصار مضمون عبارة “عدم تطبيق الطائف” فإنّ البند الأساسي المتوارد إلى الأذهان هو حصرية السلاح؛ ومن الملاحَظ أنّ أبرز ما في الطائف كان التأكيد على بسط سيادة الدولة ونزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية خلال 6 أشهر بعد إقراره… هذا لم يحصل وسلاح “حزب الله” لم يسلّم إلى الدولة. يُضاف إلى ذلك بنود اللامركزية الإدارية الموسّعة وإلغاء الطائفية السياسية وإنشاء مجلس للشيوخ وقانون انتخابات على أساس المحافظات… كلّها حذافير بقيت طيّ الإغفال في الدُّرْج.
عندما يستعرض البروفسور أنطوان مسرّة ما بقي من وثيقة الوفاق الوطني بعد 35 عاماً، تجدر إشارته إلى أن وثيقة الطائف لم تُدخِل جديداً على المنظومة الدستورية اللبنانية، بل إنها كرّست ثوابت مهمّة مع التأكيد على أن النظام الدستوري اللبناني لم يتغيّر منذ حقبة العثمانيين في كلّ ثوابته. واتفاق الطائف باقٍ لأنه لا يوجد اختبارياً أيّ صيغة أخرى للبنان سوى الدستور الحاليّ القائم. وهذا يحتاج إلى ثقافة وتثقيف حيث أنّ مقدّمة الدستور مستخرجة من كلّ ثوابت لبنان؛ وتركّز مقاربة مسرّة لـ”النهار” على المادة 49 التي جعلت رئيس الجمهورية رئيساً للدولة وهي “من اختراع عباقرة في الطائف”، ورسّخت لما حصل في عهد الرئيس فؤاد شهاب وسواه من الرؤساء فوق كلّ مفهوم الصلاحيات. ومَن يسعى إلى تبديل نقطة أو فاصلة عليه معرفة ماذا استغرقت من نقاشات وحوارات موجودة داخل الوثيقة… وما حصل أنّ النظام السوري لم يكن يريد تطبيق اتفاق الطائف الذي نصّ على انسحاب جيشه.
ما يخشاه غالبية مؤيدي الطائف على تنوّعهم وجود إرادة لدى بعض القوى السياسية – وإن غير معلنة – لتغيير الثوابت اللبنانية والقيم التأسيسية للبنان القائمة على اعتبار لبنان عربيّ الهوية والانتماء والتأكيد على اعتبار رئيس الجمهورية رئيساً للدولة يسهر على احترام الدستور اللبناني. ويضاف إلى ذلك تغيير المادة 65 والفصل الرابع الذي يسمّي السلطة التنفيذية كسلطة إجرائية، والاتجاه إلى جعل مجلس الوزراء أشبه ببرلمان مصغّر ما يخالف مضامين الفصل الرابع من الدستور اللبناني. ويعني ذلك المخافة من تغيير الأسس التي بني عليها لبنان وإدخال البلاد في مغامرات.
لم يُطبَّق الطائف، لكن من ناحية أخرى هل بقي كلّ شيء من اتفاق الطائف، لأنه لا يزال راسخاً في النصوص ووسط التأكيد على ضرورة تطبيقه؟ في استنتاج يونس، “لا خيار سوى تطبيق الطائف وإلا زوال لبنان. لا بدّ من التطبيق وإرساء دولة تعددية بين الناس، لا الوصول إلى دولة طوائف تتقاسم بعضها بعضاً. فجوهر فكرة الطائف هو العلمانية التي يعيش المواطنون ضمنها انطلاقاً من المساواة بينهم”.
وبالنسبة إلى مسرّة، “اللبنانيون لم يتعلّموا في المدارس ثقافة المواثيق في وقت يُعتبر الميثاق أكثر من عقد وهو يربط ويوثّق، وعبارة ميثاق في التراث العربي والإسلامي رائدة وسط مثال روماني يؤكد على أهمية احترام المواثيق… يُعتبر الطائف الصيغة الاختبارية الوحيدة للبنان وكلّ ما تبقّى مغامرات”. وينفي مسرّة أن يكون اتفاق الدوحة قد أضاف تغييرات على الطائف، لأنّ “وثيقة الدوحة أشارت إلى اتفاق الطائف أنّه وسيلة فضلى في الظروف الاستثنائية لكنّها لم تغيّر شيئاً في وثيقة الطائف على عكس ما يعتبر البعض”.