جولة من "حرب المئة عام.. حتى آخر مسيحي"! هل يستطيع الحريري التنازل عن الطائف؟
دخل تشكيل الحكومة مربّعاً خطراً يتعلّق بمصير النظام في لبنان، من حيث مستقبل اتفاق الطائف، وروحيته، وآليات عمله، وأسسه كدستور اتفق عليه اللبنانيون.
لم تعد المسألة تتعلّق بالحصص الوزارية لكل طرف سياسي، القضية صارت في مربع نزاع الصلاحيات، وخلق أعراف دستورية تُغني عن "مغامرة" طرح تعديل الدستور.
لا يختلف إثنان في لبنان على أن الدستور ليس كتاباً منزلاً، ولأنه كذلك فإن النقاش فيه مفتوح، ولكن في كل الاتجاهات وليس في اتجاه واحد فقط. فالحديث عن تعديل الدستور يستوجب حكماً إعادة طرح التوازنات الوطنية على الطاولة، لأن دستور الطائف لم يأتِ من دون حسابات دقيقة لوقائع لبنانية حساسة، وبما يراعي حفظ التوازنات مع مراعاة المتغيرات والوقائع، وبما يؤمن حماية الخصوصية اللبنانية.
بكلام أوضح، فإن اتفاق الطائف تعامَل مع المتغيرات الديموغرافية بدقة، لم يقفز فوقها لكنه لم يمنحها الغلبة. ولذلك فإن صانعي الطائف أخذوا في عين الاعتبار هذه الحسابات، وانطلقوا منها لصياغة دستور "واقعي" للبنان وتوازناته المترابطة، مما يجعل الإخلال بأي ركن من هذا التوازن إخلالاً بالدستور وفحواه نصّاً وروحاً، ويفتح باب النقاش على تعديل بالأركان الأخرى.
قد لا يدرك الراغبون بتعديل الطائف هذه الحقائق، لكنهم يتهيبون فتح النقاش فيه، ويحاولون تعديل الطائف بالممارسة، مما يمنحهم أفضلية آنية، لأن الأعراف التي سيتم العمل بها ستكون في ركن واحد من أركان النظام، وهو ما يقطع الطريق على فتح النقاش في الأركان الأخرى من الدستور.
لكن التوازن السياسي الحالي معرّض دائماً للاختلال في لبنان، وهو ما سيؤدي عند حصول أي اختلال بالتوازنات إلى أعراف أخرى في باقي أركان الدستور، قد تنطلق من وقائع ديموغرافية، فتخلق أعرافاً جديدة وينهار الطائف كنص مكتوب ليحل مكانه دستور قائم على الأعراف!
صحيح أن تشكيل الحكومة قد تأخر بعض الوقت بسبب المداخلات الإقليمية، لكن الصحيح أيضاً أنه عندما حانت اللحظة الإقليمية لتشكيل الحكومة، يحاول بعض اللبنانيين استغلال الفرصة لممارسة الضغط بهدف تحقيق مكاسب سياسية، ولو أدى ذلك إلى تفويت فرصة حقيقية سانحة لتشكيل الحكومة وانطلاق العهد بالزخم الذي يرغب به.
لا يستطيع سعد الحريري تشكيل حكومة وفق المعايير التي يجري وضعها كقواعد لتشكيل الحكومة.
ولا يستطيع سعد الحريري تشكيل حكومة تستثني فريقاً فاعلاً بحكم الرغبة بإلغائه.
ولا يستطيع سعد الحريري ترؤس حكومة يدير دفّتها فريق سياسي حتى ولو كان هذا الفريق من "عظام الرقبة"، كما أنه لا يستطيع ترؤس حكومة يشاركه في رئاستها شخص آخر حتى ولو كان هذا الشخص هو بهية الحريري.
يُحشر الحريري في زاوية ضيقة، ثم يُقال له إن عليه "أخذ المبادرة"!
لقد بادر سعد الحريري، وعرض تقديم تضحيات لكل الفرقاء.. إلا للفريق السنّي من خارج تيار "المستقبل". كان ذلك أحد المآخذ عليه، فهو يتنازل للآخرين في الطوائف الأخرى لتسهيل تشكيل الحكومة، لكنه يرفض التنازل لشركائه في التمثيل السنّي، مما أظهره أنه يتنازل عن "حقوق السنّة"!
حاول سعد الحريري التقاط اللحظة السياسية المؤاتية لتشكيل الحكومة. تلك اللحظة التي صاغت التسوية في العراق بسحر ساحر، وهي تفتح الباب لتسوية حكومية في لبنان أيضاً بسحر التأثير الخارجي أيضاً.
كانت السهام تطلق على الحريري بأنه يخضع للأجندة السعودية بتأخير تشكيل الحكومة، ولما بادر إلى التشكيل جاءت العرقلة من الجانب المسيحي.
يخوض المسيحيون في لبنان حروباً على كل الجبهات!
يخوضون معارك مع الرئيس المكلف لتحسين مواقعهم الوزارية.
ويخوضون معارك مع القوى السياسية الأخرى لتقليم أظافرها الوزارية.
ويخوضون معارك فرض أعراف جديدة تعزّز صلاحيات رئيس الجمهورية.
ويخوضون معارك تحجيم وإلغاء ضد بعضهم البعض للاستفراد بالتمثيل الوزاري المسيحي.
ويخوضون معارك داخل كل فريق منهم لحرق أوراق المستوزرين والمحظوظين والمحظيين…
حروب المسيحيين لا تنتهي، ولا يبدو أنهم يتعلمون من التاريخ الذي يشهد بأن حروب المسيحيين بين بعضهم كانت الأكثر شراسة والأشد وقعاً وضرراً وفداحة من حروبهم مع كل الآخرين.
إنها كرسي الرئاسة تلك التي ينام المسيحيون على الحلم بها، ويستيقظون على خسارتهم لها.
كان الرئيس الراحل سليمان فرنجية يردّد دائماً أن كل مسيحي يبلغ من العمر 25 سنة، تبدأ الطموحات الرئاسية بدغدغة أحلامه.
رئاسة الجمهورية في لبنان هي الموقع المسيحي المتقدم في الشرق. هو الموقع الوحيد في هذا المشرق للمسيحيين. ولذلك فإن رئيس جمهورية لبنان يعتبر نفسه ممثّلاً عن هذا الشتات المسيحي في كل المنطقة، والذي يتضاءل بفعل حروب الجهل والمؤامرات على المسيحيين أنفسهم.
ولأن رئاسة الجمهورية في لبنان تمثّل هذه الرمزية بالنسبة للمسيحيين، فإنها تشكّل هذه الحساسية، وهذا الطموح الجارف الذي يأخذ في طريقه مستقبل مسيحيي لبنان.
لا يبدو أن موارنة لبنان يقرأون جيداً ما يجري في المنطقة. هناك متغيرات كثيرة ستتبلور تباعاً وستجعل موارنة لبنان في "المرتبة الثانية" خلف مسيحيين آخرين يستندون إلى قوة عظمى صارت جزءاً من المنطقة.
لا يبدو أن موارنة لبنان يعتبرون من التاريخ عندما كان الأرثوذكس يحكمون هذه المنطقة، وكانوا القوة النافذة فيها حتى عندما سقط حكمهم.
يصرّ موارنة لبنان على أنهم "فئة أولى"، بينما يحاول شركاؤهم احتضانهم وحمايتهم من نزقهم ونزواتهم الرئاسية والوزارية والنيابية والإدارية…
هل تكون "معارك الحصص الوزارية" أقل ضرراً على المسيحيين، الموارنة تحديداً، من معارك "توحيد البندقية" و"أمن المجتمع المسيحي" و"حروب الإلغاء"؟
المنطلقات واحدة: أخطاء في الحسابات وفي القراءة الموضوعية للوقائع، كانت تؤدي إلى كوارث على المسيحيين، وهي اليوم تتكرّر لتكون نتيجتها كارثية على المسيحيين، حتى ولو ربح فريق منهم جولة من "حرب المئة عام.. حتى آخر مسيحي" في هذا المشرق العربي!