بين " الضاحية وقريطم " هل اضاع المسيحيون البوصلة ؟
كان عام 2011 عاماً استثنائياً بكل المقاييس . كان عام المفاجآت والتحولات التي تدفق سيلها من حيث لم يتوقع أحد . ويمكن وصفه عن حق أنه عام الثورات العربية التي اطاحت أنظمة جامدة ومتوارثة وأطلقت عملية الانتقال إلى أنظمة ديمقراطية .
ما زالت هذه العملية الانتقالية تحت الاختبار لمعرفة ما إذا كان الربيع العربي الذي أزهر في العام 2011 سيثمر في العام 2012 ديمقراطية وحرية و"علمانية" للشعوب العربية ، ومن هي القوى والتيارات التي ستقطف ثماره من دون ان تحبط آمال هذه الشعوب وتدفعها إلى خفض سقف طموحاتها واحلام شباب الثورات الطامح لمستقبل أفضل .
لقد كان العام 2011 حداً زمنياً فاصلاً بين مرحلتين وذلك على مستوى المنطقة ككل ، فالنظام العربي السياسي والامني والاقتصادي دخل مرحلة تحولات بنيوية عميقة يلزمها وقت وجهد كي تتبلور وتأخذ اشكالها واحجامها النهائية... ولكن من المؤكد ان المنطقة العربية لن تكون بعد هذه الثورات مثل ما قبلها ، وهنا يجب علينا الاعتراف بأن كل الاحتمالات مفتوحة وممكنة ومن المبكر جداً الحديث عن مدى إيجابية أو سلبية نتائجها.
أما في لبنان فإن عام 2011 كان ايضاً عام التحوّل السياسي ، فأكثرية 14 آذار تحولت إلى أقلية، وأقلية 8 آذار تحولت إلى اكثرية ، وتحولت حكومة الوحدة الوطنية إلى حكومة اللون السياسي الواحد ، وحصل تبادل مواقع بين اطراف الموالاة والمعارضة وحدث تعديل لا بل خرق وعدم التزام في قواعد اللعبة السياسية التي أرسيت عبر اتفاق الدوحة... ويظل العام 2011 مطبوعاً بهذا التحول السياسي الذي اخرج الرئيس سعد الحريري من الحكم خروجاً قسرياً وجاء بالرئيس نجيب ميقاتي إلى السرايا الحكومي ليدخلها دخولاً طوعياً وإرادياً تحت شعار "الانقاذ ومنع الفتنة".
ولكن رغم زحمة الاحداث والعناوين في لبنان والمنطقة ، يظل انتخاب البطريرك مار بشارة بطرس الراعي حدثاً مميزاً وهاماً لدى المسيحيين ويشغل حيّزاً واسعاً على أجندة العام 2011 ، فهذا الحدث الذي اطلق " ربيع بكركي والكنيسة المارونية " عكس عظمة وعراقة البطريركية المارونية التي يمكنها بكل سلاسة ورقي ومسؤولية الانتقال من عهدة بطريرك أطال الله بعمره وكافأه على ما اسداه من جهود وتضحيات هو البطريرك الكاردينال مار نصرالله صفير الذي ينتمي إلى سلالة البطاركة العظماء والتاريخيين، إلى عهد بطريرك جديد تسري في دمه وأدائه دينامية وحيوية الشباب ويسعى جاهداً منذ لحظة اعتلائه سدة البطريركية إلى إحداث نقلة نوعية في تأكيد الحضور والدور المسيحي الفاعل والمؤثر بطريقة تكسر التقليد والمألوف من دون ان تمس أو تُفرّط برسالة بكركي وإرثها الوطني ودورها وخطها التاريخي.
لقد كان البطريرك الراعي على حق وصواب في ما دعا وسعى إليه من تحقيق الوحدة المسيحية على أساس التنوع في الوحدة ومن تعزيز الوحدة الوطنية على أساس احترام الخصوصيات والتوازنات ، ومن دعوة صادقة إلى حماية الاقليات وطمأنتها في زمن التحولات والعواصف الإقليمية التي بدأت تنذر بطغيان العددية على التعددية...
وكم كانوا مخطئين أولئك الذين ساورتهم الشكوك ازاء مواقف البطريرك الراعي واستعجلوا في إصدار الاحكام وإطلاق حملات الافتراء والتحامل عليه... وكم كانوا مخطئين ايضاً أولئك الذين اعتقدوا ان في وسعهم استيعاب البطريرك وتجيير مواقفه لمصلحتهم السياسية واستعجلوا تصنيفه إلى جانبهم وفي إغداق المديح والإطراء عليه بهدف اجتذابه واستقطابه والتأثير عليه ، وكم كان "احمق " ذلك الذي اعتقد انه باصدار كتاب مليء بالكذب والافتراء والمعلومات الكاذبة يمكن ان يخيف البطريرك ويجعله يتراجع عن مواقف يراها لمصلحة المسيحيين ، البطريرك الراعي على مسافة واحدة من الجميع، وهو الأب والراعي للمسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً وهو يحتضن كل ابنائه تحت عبائته.
لا مبالغة في القول إن البطريرك الراعي فعل في شهور ما يحتاج غيره إلى سنوات لفعله ، وأهم ما فعله ومن دون إضاعة وقت ومن دون الغرق في التجاذبات والشروط والشروط المضادة ، ان جمع قادة الموارنة تحت سقف بكركي ليتصالحوا ويتصارحوا ، ليطوي بذلك وإلى غير رجعة صفحة قاتمة وسوداء من كتاب النزاعات والخلافات المسيحية التي أخذت في أحيان كثيرة وللأسف اشكالاً عنفيّة ودموية ومأساوية... ولم يعمل البطريرك الراعي لمصالحة عابرة شكلية تُسمى مصالحة " تبويس اللحى " ورفع العتب ، وإنما سعى إلى فتح صفحة ومرحلة جديدة من العلاقات المسيحية تقوم على مبادىء الحوار والتعاون والتسامح وإلى توحيد الطاقات وصهرها في بوتقة المصلحة المسيحية واللبنانية العليا... وهكذا انطلق وللمرة الأولى حوار هادف بين القوى والتيارات والاحزاب المسيحية، لمناقشة كل الملفات والقضايا ذات الصلة بدور المسيحيين ومستقبلهم وأمنهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي... وللمرة الأولى ايضاً يتحقق هذا الفصل العملي عند القادة السياسيين بين الخلافات والصراعات الشخصية التي تظل موجودة ويصعب إخفاؤها أو إطفاؤها ، وبين القضايا والملفات الوطنية والسياسية التي يمكن ويجب التنسيق في شأنها ، وهي في طبيعتها قضايا تقرّب وتوحّد أكثر بكثير مما تبعّد وتفرّق لمجرد انها تصب في المصلحة المسيحية وتشكل مساحة التقاء وتقاطع بين مختلف المسيحيين أيّا تكن انتماءاتهم وميولهم السياسية والحزبية...
كثيرة هي الملفات والقضايا التي تشغل بال المسيحيين وتقلقهم وباتت بمثابة هواجس تلازمهم وتقض مضاجعهم . من التطبيق الناقص والمجتزأ لاتفاق الطائف إلى التعديلات الدستورية التي تتوخى التصحيح وتنقية الشوائب ، ومن صلاحيات رئاسة الجمهورية التي يجب تعزيزها لحساب الحضور المسيحي في الدولة الذي يزداد نقصاً وهزالة وشحوباً ، ومن مسائل التجنيس وتملك الأجانب التي تهدد بتغيير وجه لبنان والإخلال بتوازنه ، إلى التوطين الذي يظل هاجساً رابضاً على صدور اللبنانيين ، ومن موضوع اللاجئين اللبنانيين قسراً إلى إسرائيل والباحثين عن عودة حرة كريمة إلى بلدهم ، إلى المعتقلين في السجون السورية لمعرفة مصيرهم واعادتهم سالمين إلى عائلاتهم ، إلى موضوع المهجرين المسيحيين داخل وطنهم والباحثين ايضاً عن عودة فعلية لا صورية إلى أرضهم... ومن اللامركزية الإدارية الموسعة التي تصحح الوضع وتُنصف المسيحيين إنمائياً ومناطقياً ، إلى قانون الانتخابات الذي بدّله اللبنانيون منذ الطائف مثلما يبدّلون ثيابهم وحان الوقت الآن لوضع قانون انتخابات ثابت وصحيح...
يظل قانون الانتخابات هو المسألة الاكثر إلحاحاً ، وتبقى الأولوية له بين كل المسائل المطروحة والمشكو منها... وحسناً فعلت بكركي عندما حددت قانون الانتخابات عنواناً للمرحلة وبادرت إلى رعاية وتشجيع حوار مسيحي حوله لأن قانون الانتخابات هو المدخل إلى تمثيل شعبي صحيح يؤمن التوازن السياسي والطائفي ، وبالتالي بات قانون الانتخابات مفتاح المشاركة الفعلية في الحكم والدولة ، وبصراحة اكثر ، فإن المشاركة الفعلية تبدأ من المجلس النيابي ولا تتحقق إلا عبر تمثيل مسيحي وإسلامي متكافىء بعدما حسمت مسألة التمثيل في الطائف على أساس المناصفة بين المسيحيين والمسلمين بغض النظر عن العدد والحجم . والغاية الأساسية من اي قانون انتخابات تصبح تأمين التمثيل المسيحي الصحيح أي تأمين الطرق والوسائل التي تتيح للمسيحيين اختيار نوابهم الذين يعرفونهم ويمثلونهم حقيقة ويخضعون لمحاسبتهم ، وبالتالي وضع حد للزمن الذي كان فيه النواب المسيحيون يفرضون فرضاً على الناخبين وينزلون عليهم بـ "الباراشوت " ، ووضع حد لأي قانون انتخابات يجعل من النواب المسيحيين تابعين حتى لا نقول "دمى " لقوى وزعامات إسلامية ورهائن لمعادلة طائفية جاءت بهم ولمشيئة الآخرين...
فإذا كان اتفاق الطائف اعطى المسيحيين 64 مقعداً من اصل 128 مقعداً في مجلس النواب ، وجب البحث عن صيغة تعطي المسيحيين فعلياً لا شكلياً هذا العدد . فليس المهم ان هناك 64 نائباً مسيحياً (مسيحي على الهوية فقط ) ، بل السؤال الأهم هو هل هؤلاء النواب يعبّرون حيث هم وبالطريقة التي وصلوا بها عن تطلعات المسيحيين وقضاياهم ومصالحهم ؟ ... وبصراحة أكثر نقول إن كل الصيغ الانتخابية التي طبقت منذ اتفاق الطائف حتى الآن إنما اعتمدت من خلفية احتواء وإضعاف المسيحيين انطلاقاً من تبعيتهم للقيادات الإسلامية في معظم الدوائر الانتخابية ، وحان الوقت لقانون جديد يحرر النواب المسيحيين من كل تبعية ويجعلهم خاضعين لقرار المسيحيين وخيارهم واصواتهم ... وهذا القانون الجديد الذي يلبي حاجات المسيحيين ومطالبهم ويعكس الواقع التمثيلي الحقيقي كما هو ، يعبّر عنه إلى حد بعيد مشروع " اللقاء الارثوذكسي " الذي يؤمن التمثيل المسيحي الصحيح ، فيما أي قانون آخر اكثرياً كان أم نسبياً ، في دائرة صغرة أو وسطى، لا يؤمن في أحسن الاحوال إلا ثلث التمثيل المسيحي الصحيح...
يجب على المسيحيين عموماً والموارنة خصوصاً عدم إضاعة هذه الفرصة التاريخية ومن واجبهم ومصلحتهم ان يتمسكوا بالمشروع " الارثوذكسي " الذي يتيح لكل طائفة ان تنتخب نوابها. ولا ضير ولا خجل في ذلك طالما ان النظام الطائفي هو المطبق والمعمول به وفق حصص وتوزيعات طائفية من رأس الهرم إلى اسفله. وفي مسألة التمثيل المسيحي النيابي كما في مسائل أخرى تتعلق بجوهر الوجود والدور المسيحي لا مجال لتهاون او تساهل أو مسايرة... لا بل صار المطلوب من الشركاء في الوطن مراعاة وضع المسيحيين والعمل على تقوية الوجود المسيحي بكل الوسائل لأن في قوة المسيحيين قوة للبنان الذي إذا خسر مسيحييه خسر وجهه المميّز في هذه المنطقة واصبح رقماً إضافياً على الخارطة العربية ...ولكن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق المسيحيين انفسهم وعلى عاتق سياسييهم اولاً ، الذين لم يعد باستطاعتهم ممارسة الترف السياسي والتلهي بنزاعات وصراعات من اجل مصالحهم وطموحاتهم الشخصية والانصراف عن قضايا ومخاطر وجودية ... فلم يعد مقبولاً ولا جائزاً ان يستمر الواقع على ما هو عليه وحيث هناك طائفة سنية بمواليها ومعارضيها واحزابها تدافع عن مصالح السُنة في كل المجالات ، وطائفة شيعية بزعمائها واحزابها تدافع عن مصالح الشيعة في كل الامور ، وطائفة موحدين بأغلبية قواها تدافع عن مصالح الدروز ، فيما المسيحيون منقسمون ومتناحرون وغافلون عن مصالحهم وحقوقهم. وهم منقسمون بين " مسيحيون سُنة " ، وبين "مسيحيون شيعة "... متناسين ما يتعرض له الوجود المسيحي في هذا الشرق وواضعين مصالحهم الشخصية فوق مصالح المسيحيين العليا.آن الأوان ان تكون المصلحة المسيحية هدفاً اساسياً عند كل مسؤول أو رئيس حزب مسيحي ، وان تكون بكركي ، " لا الضاحية ولا قريطم " ، هي الملتقى والملاذ والمرجع...