لبنان «يعود» إلى 1975: من الطائف إلى المثالثة فـ«الفيدرالية»
أثار كلام رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون أخيراً حول اللامركزية الموسعة والفيدرالية تساؤلات في الأوساط السياسية عن توقيته ومغزاه، في خضمّ أزمة سياسية حكومية تشل لبنان.
ورغم أن عون طالب صراحة بتطبيق اللامركزية الإدارية الموسعة، وربط بينها وبين الفيدرالية، إلا أنه أكد أن الأمر «يحتاج إلى حالة وفاقية ليتحقق».
كان عون يتحدث عن لبنان كما عن التحولات التي تشهدها المنطقة واحتمال نشوء فيدرالية في العراق، إلا أن كلمة «فيدرالية» في حد ذاتها تثير في لبنان ردود فعل معترضة. إذ إن للكلمة وقعها ربطاً بالحرب التي اندلعت العام 1975، ما أدى إلى صدور انتقادات من أكثر من طرف سياسي مسيحي وإسلامي.
وتثير كلمة فيدرالية عند تردادها في لبنان مشاعر متناقضة، لأنها ترتبط بالحرب، وبجملة مشاريع واتفاقات تمّ التوصل إليها على مدى أعوام الاقتتال الداخلي الطويلة (بين 1975 و1990). لكن الأدهى أنها ترتبط في ذاكرة اللبنانيين بمشاريع التقسيم التي رُسمت للبنان والمنطقة، ولا تزال الخشية أن يتردد صدى ما يحصل من فرز طائفي وسياسي وعسكري في العراق وسورية، في الساحة اللبنانية. ولذا جاء وقع كلام عون صادماً في بعض الأوساط المناوئة له، ولا سيما من جهة «تيار المستقبل».
فتح عون مشكلة النظام على مصراعيها، رغم أن قريبين منه يقولون إنه لم يكن ينادي بالفيدرالية بل باللامركزية الموسّعة. وهذه المشكلة لم تطوها لا سنوات الحرب ولا سنوات السلم. لأن الصراع على شكل النظام لا يزال مستمراً بأوجه مختلفة، منذ أن تأسس لبنان الكبير وحتى يومنا هذا. من الفيدرالية والوثيقة الدستورية، إلى الاتفاق الثلاثي، ومن ثم اتفاق الطائف إلى طرح المثالثة، سنوات عبَر فيها النظام محطات خطرة، تجاوزها اللبنانيون بخسائر متفاوتة.
كيف نشأت فكرة الفيدرالية في لبنان؟
يقول الاباتي بولس نعمان في مذكراته «الإنسان الوطن الحرية» إن فكرة الفيدرالية وُلدت من خلال ردّ «لجنة البحوث اللبنانية التي نشأت عام 1975 في جامعة الروح القدس الكسليك»، على «مبادرة الحل السوري التي شكلت فيما بعد عماد الوثيقة الدستورية». في رد لجنة البحوث «إن انتخاب رئيس الحكومة من النواب في لبنان - الدولة الفيدرالية الواحدة يتعدى فرض السيطرة على رئيس الجمهورية المسيحي، إلى هيكلية الدولة بالذات التي ستصبح عندئذ اتحاداً كونفيدراليا. أي أن هذا الاقتراح يعني شطر لبنان دولتين متّحدتين كونفيدرالياً. فإذا كان هذا هو المطلوب فليكن البحث فيه بحثاً عملياً واضحاً».
ارتبط طرح الفيدرالية خلال الحرب بالفريق المسيحي الذي نادى بها رداً على المطالب التي كان يتقدم بها الأطراف المسلمون بدعم من النظام السوري حينها بقيادة الرئيس حافظ الأسد. كانت الحرب قد رسمت من خلال خطوط التماس والمعارك المتنقلة، حدوداً جغرافية قائمة بذاتها، أنشأ فيها كل طرف أو حزب دولته الخاصة. فكما أقامت أحزاب اليسار و«المرابطون» و«أمل» حكمها الذاتي وكذلك «فتح لاند» والإدارة المدنية في الجبل تحت قيادة الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط، أنشأت الأحزاب المسيحية أيضاً كيانها الخاص الذي توحّد لاحقاً تحت قيادة «القوات اللبنانية» التي أقامت نواة حكم وإدارة خاصة داخل مناطقها.
لكن هذه المناطق التي انعزلت عن بعضها، ظلت مترابطة بحد أدنى مع «الدولة المركزية» التي ظلّ يحكمها رئيس الجمهورية. ومع انعقاد مؤتمرات حوارية متتالية للبحث في الأزمة اللبنانية، طًرحت سلسلة أفكار للنقاش وأوراق عمل، كان الهدف منها وقف الحرب وتعديل شكل النظام اللبناني. من هذه الأوراق التي قُدمت إلى مؤتمر لوزان الذي انعقد في سويسرا العام 1983 مشروع مشترك تحت اسم «لبنان جمهورية اتحادية» قدّمه حزبا «الكتائب» و«الأحرار». ونُقل حينها أن الرئيس كميل شمعون اقترح التسمية لأنها لا تترك الأثر نفسه الذي تتركه كلمة «فيدرالية».
ويقول أحد أبرز مسؤولي حزب الكتائب السياسيين في تلك المرحلة جوزف أبو خليل في مذكراته «قصة الموارنة في الحرب»: «أعترف بأنني أنا واضع مشروع الدولة الاتحادية الذي تقدّم به ركنا الجبهة اللبنانية»، ويضيف: «كيف وافق الشيخ بيار على مشروعٍ هو على النقيض مما يفكر فيه ويراه وكنتُ على علم أن الرجل هو ضد أي فيدرالية وأي لا مركزية سياسية وأمنية». ويشرح أن طرح الفيدرالية «كان استجابة لميل المسيحيين إلى التغيير في بنية الدولة اللبنانية».
ظلت الفيدرالية حبراً على ورق. لم يُكتب للطرح أن يُترجم فعلياً في المؤتمرات والمواثيق التي صيغت لاحقاً، سواء في الاتفاق الثلاثي، أو في اتفاق الطائف الذي كرّس نهاية الحرب. إلا أن أهمّ ما حققه الطائف أنه حاز على ثقة المسيحيين به رغم بعض الاعتراضات على بنود فيه. نال «الطائف» رضا البطريرك الماروني الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير ورضا «القوات اللبنانية» وغالبية النواب المسيحيين. وبقي عون وحده رافضاً لسنوات طويلة الاعتراف بوثيقة الوفاق الوطني.
أدخل اتفاق الطائف تعديلات جذرية على بنية النظام اللبناني، ورغم مرور 25 عاماً على إبرامه لا تزال هناك نقاط كثيرة لم تُطبق فيه. وأبرز هذه البنود اللامركزية.
ويقول النائب السابق البر منصور في كتابه «الانقلاب على الطائف» حول ما أقره النواب في الطائف في ما خص اللامركزية: «كان مطلب اللامركزية بمعنى حد أدنى من الاستقلالية مطلباً مسيحياً، يراوح بين المطالبة بانعزال الوطن كله (..) وبين استقلالية محدودة للمناطق ذات الأكثرية المسيحية (..) والاستقلالية هذه بغطاء اللامركزية أصبحت وتبعاً للظروف وخاصة بعد الاحتلال الإسرائيلي وحرب الجبل مطلباً درزياً».
وبحسب منصور فإن ما اعتُمد في الطائف حيث اجتمعت قوى توحيدية، هو الوحدة الادارية المصغرة كأساس للامركزية، أي القضاء بدل المحافظة، كي لا تتقدم إمكانية التقسيم.
رغم كل الشروحات التي قيلت على مدى الأعوام الماضية، لم تبصر اللامركزية النور. لا بل إننا شهدنا في خلال عهود الرؤساء إلياس الهراوي وإميل لحود وميشال سليمان، تقديم سلسلة مشاريع لوضع اللامركزية الموسعة قيد التنفيذ لكنها بقيت في الأدراج.
اليوم عاد عون لتسليط الضوء على التقاطع بين الفيدرالية واللامركزية. ولا يمكن لأيّ متتبع لعلاقة عون باتفاق الطائف أولاً وبتوقيعه ورقة التفاهم مع «حزب الله» ثانياً إلا أن تثير طروحات عون لديه أسئلة عن المسار الذي يمكن أن يحكم النظام اللبناني مجدداً، في ضوء المتغيرات التي تشهدها المنطقة.
ففي الأعوام الأخيرة شهد لبنان، عند المفترقات الأساسية الخطرة، نزعة مستمرة إلى الحديث عن تعديلات يجب أن تحصل على اتفاق الطائف. كان عون يطرح من حين إلى آخر مسألة الصلاحيات الرئاسية وضرورة تعديلها. وهو ما لاقى استحسان بعض مؤيديه، لكنه أيضاً جُبه بمعارضة من المدافعين عن الطائف في الوسط المسيحي الحريص على إبقاء هذا الاتفاق دستوراً وحيداً للبنان وعدم القفز فوقه أو حتى إدخال تعديلات عليه. إذ يخشى هذا الوسط المسيحي من أي مس بهذا الاتفاق، لأنه لا يزال خشبة الخلاص الأخيرة للبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً.
ويلحظ المدافعون عن الطائف، أن عون الذي كان أشدّ المعارضين له، حرص في الفترات الأخيرة على عدم التعرض للاتفاق، والتعامل معه على أنه الدستور المعترف به دولياً إلى الحد الذي كرر أخيراً مطالبته بتطبيقه والعمل بأحكامه في مجلس الوزراء مثلاً.
لكن مسار الطائف لم يتعرّض فقط لحملات تشكيك به أو عدم تنفيذ بعض بنوده، فالثنائية الشيعية المتمثلة بـ«حزب الله» و«أمل»، حاولت في الأعوام الأخيرة وضع الطائف على مشرحة التعديل، من خلال طرحٍ أثار جدلاً لسنوات عدة أي المثالثة في الحكم. وقد انطلق الحديث عن المثالثة بعد العام 2005، وتردّد الحديث عنه إبان الحوارات الفرنسية - الإيرانية في مرحلة الإعداد لانتخابات رئاسة الجمهورية، وإبان تشكيل الحكومات التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
انطلقت فكرة المثالثة من واقع التغير الديموغرافي الذي لحق بالمسيحيين في لبنان، الأمر الذي اعتبرته الثنائية الشيعية أنه مؤشر أولي لتعديل اتفاق الطائف الذي بني على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. وبما أن التغيّر الديموغرافي وازن بين ثلاثة أثلاث، مسيحيين وسنّة وشيعة، تم تداول طرح المثالثة في الحكم. وبقي الاقتراح قيد التداول لفترة طويلة، وقالت إيران إن فرنسا اقترحته، ووضع الفرنسيون الكرة في الملعب الإيراني. فيما ترددت على طاولة مجلس الوزراء أحاديث تصبّ في اتجاه تكريس الفيتو الشيعي، كأساس لقوة وازنة بين الصوت المسيحي والصوت السني.
وإلى جانب العامل الديموغرافي الذي لمح إليه مرّة الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، جرى الحديث عن عدم وجود القوة الشيعية خلال صياغة اتفاق الطائف الذي أُبرم بين السنّة والمسيحيين. لكن مع تطور الدور الشيعي منذ التسعينات، وتَحوُّل رئاسة البرلمان في عهد الرئيس نبيه بري تحديداً وتَصاعُد نفوذ إيران في لبنان ودور «حزب الله» في لبنان والمنطقة، كان لا بد أن يكون للشيعة دور أساسي في تركيبة النظام في لبنان. ووفق هذا المنظور، تحوّل دور الرئاسة الثانية تلقائياً إلى دور رئيسي في تشكيل الحكومات وفي إدارة الحكم، أولاً من خلال «الترويكا» التي طبعت عهد الهراوي، وتدريجاً في المراحل التي دخل فيها «حزب الله» إلى الحكومة. من دون ذكر ما حصل إبان تشكيل الحكومات الأخيرة من إصرار على الإمساك بـ«الثلث المعطّل» سواء صراحةً أو من خلال ابتداع فكرة «الوزير الملك»، وإعطائه للطرف الشيعي، كما من خلال تمسك بري خلال تشكيل حكومة الرئيس تمام سلام الحالية بالحصول على وزارة المال كي يصبح للشيعة حق التوقيع إلى جانب رئيس الجمهورية المسيحي ورئيس الحكومة السني.
وحرص «حزب الله» أكثر من مرة وعلى لسان أمينه حسن نصرالله نفسه في الأشهر الأخيرة على إعلان تمسكه باتفاق الطائف، ونفي طرح المثالثة نفياً قاطعاً. ورغم ذلك ظلّ هذا الهاجس يخيّم على النظام اللبناني.ومع طرح عون مجددا فكرة الفيدرالية، مربوطة باللامركزية الموسعة، يُسلَّط الضوء مجدداً على تركيبة النظام اللبناني الهشة، بين مدافعين بقوّة عن بقاء الطائف، مع تنفيذ بنوده ومنها اللامركزية الموسعة، وبين المطالبين بإدخال تعديلات عليه. وقد تكون التحولات الجغرافية والسياسية والعسكرية التي تشهدها سورية والعراق، تغري البعض بطرح أفكار قديمة جديدة بهدف طمأنة المسيحيين وخصوصاً في ظل الهواجس التي تحكمهم بعد تصاعُد خطر«تنظيم الدولة الاسلامية» وتهجير مسيحيي العراق وسورية. لكن في نظر سياسيين مناوئين لهذه الطروحات، فإن ما يجري يجب أن يكون دافعاً أقوى من أجل إبقاء الطائف وحده عنواناً للنظام اللبناني، وأخذ الحوار حول اللامركزية إلى بُعدها التقني فحسب لأن فيها الكثير من الإيجابيات بالنسبة إلى المجتمع اللبناني، بعيداً عن التجاذبات السياسية الآنية.