تسوية بلا شركاء
في القرن التاسع عشر دعا فريدريك انجلز الى الانتقال من أفكار سان سيمون عن "حكم الأشخاص" الى "إدارة الأشياء". وفي القرن الحادي والعشرين يواصل لبنان السير في الاتجاه المعاكس:
التكييف مع الفشل في "إدارة الأشياء" والتأزم في "حكم الأشخاص". العام المقبل سنحتفل بمئوية لبنان الكبير ولا نزال عاجزين عن إدارة حتى الأشياء "البلدية" كالنفايات والكهرباء والماء والتلوث ومنع زحف التصحّر على لبنان الأخضر سابقاً. وفي كل عام تزدهر بدل أن تموت العصبيات في ظل حكم الأشخاص الذين تتكرر أسماء بعضهم منذ الإستقلال وما قبله. كثير من الثرثرة السياسية في تشييع السياسة بالرصاص الى مثواها الأخير. وقليل من الحكمة وسط طوفان الحماقة، بحيث صار تعطيل عمل الحكومة نوعاً من "الإنقاذ" للبلد.
ومن الوهم أن نتوقع أموراً مختلفة من "حكومة الأشخاص" التي تدور الصراعات داخلها بعدما دارت المعارك من أجل التوصل الى تركيبتها المسماة تمثيلية وطنية. وهي تركيبة جاهزة في أي وقت للتفجر، ومانعة في كل الأوقات للجرأة على إجراء الإصلاحات البنيوية التي من دونها لا أمل في الخروج من الركود الاقتصادي الى الازدهار. أليس النمو المفترض هذا العام هو بنسبة "صفر بالمئة" وجنون العظمة والتفشيط بنسبة مئة في المئة؟ أليست المعادلة المتحكمة بنا هي: أمراء طوائف أقوياء وسلطة ضعيفة في دولة فاشلة؟ وكيف يمكن أن نحلم بالانتقال من حكومة الأشخاص الى دولة المؤسسات، وسط تلاقي المصالح على بقاء المؤسسات هياكل شكلية؟
الوقائع ناطقة. التسوية السياسية التي جاءت بالوضع الحالي في أزمة. وهذا من طبائع الأمور، لا من غرائبها. فالحكمة التقليدية في العالم تقول "إن أكبر عدو للتفاهمات والتحالفات هو النجاح..." وليس هناك معاهدة قابلة للاستمرار ولو حملت فصولها ما جاء في نصوص المعاهدات بين بريطانيا العظمى، ومشايخ الخليج: استمرار التعاهد "حتى يشيب الغراب". فالغراب لا يشيب. وبريطانيا رحلت وبلدان الخليج استقلت.
ومصالح الناجحين هي التي تقرر. فما لم يتبدل في أركان التسوية هو التفاهم بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله". وما تبدلت الحسابات حوله هو "تفاهم معراب" بين "التيار" و"القوات اللبنانية" والتفاهم بين التيار الأزرق والتيار البرتقالي. لكن الحاجة الى الرئيس سعد الحريري تفرض الحرص عليه مع السعي لإضعافه.
والسؤال هو: من يدفع في النهاية ثمن التحول الى تسوية بلا شركاء؟