الأزمة وجوديّة والمطلوب مباردة إنقاذيّة قبل فوات الأوان
واضح جدًّا أن الأزمة الحادّة التي يمرّ بها لبنان ليست مقيمة أو محصورة في الموازنة. فهي الحجاب لما هو أعمق، يقين الكثيرين أنّ الأزمة اقتصادية-سياسيّة بامتياز، وهي تحتاج لتقييم دقيق.
لا أحد ينفي أنّنا لا نمرّ بأزمة اقتصاديّة-ماليّة. فحين يبلغ الدين العام بحدود ال130 مليار دولار أميركيّ، وحين يكبر العجز ويتضخّم باتجاه الفراغ فتصير الأزمة الحادّة، وقد تعجز الحلول الجزئيّة على انبساطها وفكفكة عقدها، إذ إنّ الوعاء بات مثقوبًا والبنية الاقتصادية مضروبة بالقروح والدمل، والتطهير لا يتمّ إلاّ بتغيير الدماء أو بعملية جراحية عاجلة تنقل لبنان بأزمته الاقتصادية من شفير الهاوية والنهاية إلى غرفة المراقبة المشدّدة حتى يصير الجسد نشيطًا ليتمتّع من جديد بالحراك الملوكيّ.
ما جعل النظام الاقتصاديّ على هذا الهزال، ذلك الفساد، وعدم اتفاق الطبقة السياسيّة منذ ما بعد الطائف على هيكليّة الدولة، أو على أية دولة نريد؟ عدم الاتفاق بجذوريته الموضوعيّة أباح الهدر، وقد كان المطران جورج خضر يقول بأنّ الهدر كلمة مهذّبة وهي تعني السرقة. ليس صحيحًا انّ الطبقة السياسيّة هدرت بدليلين واضحين:
1-الدليل الأوّل كتاب الإبراء المستحيل، ولا يستطيع أحد إنكار مضمونه السميك لا بالأرقام ولا بالوثائق ولا بالتحليل المسهب المتكّئ على المعلومات.
2-الدليل الثاني ردّ الرئيس فؤاد السنيورة على النائب حسن فضل الله، بخصوص ال11مليار دولار هبات مخفية، محاولاً رشق مدير عام وزارة المال آلان بيفاني بالسهام حتى انتفض هذا الأخير عليه بمؤتمر صحافي، وابرز عيوبه والمثالب وكسر المخالب وكشف المآرب... ثمّ أظهر أن الهدر لا يعني الإسراف في الصرف بل الإصرار على السرقة.
يتطلّب الإصلاح اعتراف عدد من القوى السياسيّة بالذنوب والخطايا، وقد لا يكون هذا واردًا في الزمن الحاضر. الخطيئة الأصليّة، وهو تعبير لاهوتيّ كاثوليكيّ، تكمن في عدم إرادة عدد من الأفرقاء السياسيين الانكباب على بناء دولة فاعلة وتوضيح دورها وكشف وظيفتها. هذا بدا لي منئ سنة 2001 لمّا شاركت رئيسًا ومقرّرًا للجلسات في مؤتمر كبير دعت إليه وزارة الشؤون التنمية الإداريّة في لبنان خلال عهد فؤاد السعد وبرعاية الرئيس الشهيد رفيق الحريري وحضوره. كان العنوان واضحًا ومحدّدًا "دور الدولة في لبنان"، بحضور خبراء وعلماء من العالم العربيّ والأوروبيّ والأميركيّ. لقد رأى الأوروبيون كيف أنّنا اختلفنا حول الدور والوظيفة، ولم نفلح في وضع الإصبع على الجراح، وبقينا على الخلاف عينه، فالشخصانيات طاغية على حركة النظام بشقّيه السياسيّ والاقتصاديّ، وعند بعضهم المتطرّف بدا الحل ببيع القطاع العام للخاصّ، فأحسّ بعضنا بالخطر الشديد، فماذا يبقى للدولة من دور وحضور إذا ما تملّك القطاع الخاصّ مرافئها ومؤسساتها؟؟؟ بدا لعدد منّا أن ثمّة خطّة لوضع لبنان في مزاد علنيّ.
في ذلك الوقت انتفضنا بوجه تلك النظريات، ومنعنا انبثاثها بقوّة المنطق المعطى لنا ضمن دائرة المؤتمر. وبقي المال العام سائبًا والخراب في المؤسسات سائدًا، وأخذنا إلى مكان قصيّ عن تاريخ لبنان وتراثه، بعدما استبدت الطبقة السياسيّة بفسادها على المرافئ والقطاعات فاقتسمت المغانم والأسلاب فيما بينها، هذا عينًا يفسّر معنى إجهاض حركة الرابع عشر من آذار من خلال الحلف الرباعيّ، الذي أعاد الطبقة الفاسدة، وأكبر مالك لأوراق الفساد عند تلك الطبقة السياسيّة آنذاك هو الرئيس السابق إميل لحود، الذي وقف قدر المستطاع بوجه الفساد بل الفاسدين وهو لا يزال إلى اليوم يشير إليهم بالإصبع وبجرأة الرجل المعتصم بالحقّ الرافض لكلّ مهادنة على حساب كرامة لبنان وشرفه، ولكلّ مهانة توجّه للشعب، لا سيّما الفقراء منه. وأهميّة الرئيس لحّود أنّه رأى نتائج الانتخابات النيابيّة بشكلها الفاضح، وقد أكّد بأنّها ستعيد الطبقة الفاسدة إلى الحكم وإلى اللعبة السياسيّة، والتي بدورها ستعمد على تطويق العهد بثقلها وإرهاصاتها وتاريخها الثقيل المليء بالفضائح واقتسام أموال الشعب فيما بينها.
قضيّتنا الجوهريّة أننا امتداد لما سلف، وورثة لفساد يتعاظم مع مجموعة فاسدين. ليس من إصلاح قادر على الانوجاد والتبلور إذا ما قرّر الجميع اقتلاعه من جذوره، وهذا عينًا يتطلّب قرارًا شجاعًا يقضي بتوطيد السلطة القضائيّة وتفعيل دورها لتكون إلى جانب الجيش اللبنانيّ صمّام أمان ومصدر استقرار للجميع. معظم الطبقة السياسيّة الحاليّة تنظر إلى الإصلاح من أجل اكتساب سيدر إلى جانبنا، وكأن هذا المؤتمر بمعانيه ومقرراته سيف مسلط على لبنان، في وقت لا نحتاج الإصلاح من أجل مؤتمر بل من أجل بهاء هذا البلد واستقراره الاقتصاديّ والماليّ وانتظام مؤسساته ضمن سلطة القانون، وفي وقت نحتاج إلى تفسير واقعيّ وحقيقيّ لمعنى الاقتصاد الحرّ أو الليبراليّ، وقد تحوّل إلى نظام رأسمالي متوحّش ومتفلّت من الضوابط والقيم يسيّره فاسدون وفقًا لمصالحهم. فلا الانكباب على سلسلة الرتب والرواتب لأعطى النتيجة المطلوبة بل على العكس لقد زهقت بسبب امتصاصها من التوحّش القائم في بنيتنا الاقتصادية، من قبل مؤسسات تحالف جزءًا من السلطة، ولا الموازنة ستحيا طويلاً لأنها وإن ستناقش من قبل المجلس النيابيّ، إلاّ أنها ستؤكل بدورها بمبدأ الاقتسام.
لو كانت الدولة جديّة في معالجة الواقع الاقتصاديّ لكانت أقدمت على مجموعة إصلاحات وجبايات أنهت الفساد بقوة القانون والمنطق، لكانت مثلاً فرضت على أصحاب الأملاك البحريّة الضرائب وهي تقدّر بما يفوق ال600 مليون دولار أميركيّ سنويًّا بحسب احتساب الخبراء، ولكانت اتفقت مع المصارف التي وضعت الهندسة الماليّة لبعضها بأن تنال من أرباحها سنويًّا ما بين مليار ومليارين دولار، ولكانت حدّدت نسبة الانفاق السنويّ بتحديد الفرق ما بين الواردات والصادرات، فتخفّف من نسبة الواردات أي الاستيراد وتكثّف من حجم الصادرات إلى الخارج، ولكانت تعاطت مع ملفّ الكهرباء بعيدًا عن المآرب والأهواء وانكببنا على بناء المصانع وفقًا لدفاتر شروط تحدّد طبيعة المناقصات، ولكنّا وضعنا الشروط الموضوعيّة لمبدأ الاستثمارات وحدّدنا طبيعتها ووظيفتها ونوعيتها وقيمتها. السؤال المطروح ماذا يفرّق ما بين الزمان الماضي والزمان الحاضر. والأحزاب والسياسيون غير متفقين بعد على تحديد دور الدولة في لبنان، معظم الدارسين المستشرفين تساءلوا غير مرّة كيف يمكن لهذا البلد أن يحيا بلا دولة، يجدر بالجميع الاعتراف بموت الدولة في لبنان مع انغراس نظام الفوضى الخلاّقة في بنيتها على الأصعدة كافّة.
إصلاح النظام الاقتصاديّ يتطلّب إعادة التوازن إلى متنه. ذلك أنّ الطبقة الوسطى في لبنان قد محقت بالكامل، وهي مصدر الإنتاج والإبداع. فحين أقرّرت سلسلة الرتب والرواتب، وهي حقّ موضوعيّ للجميع، تفلّتت المؤسسات التجاريّة من أية ضوابط يفترض أن تكون رادعة. من المواد التي يفترض وضع أسعار موحدة لها الخبز المازوت والبنزين، والحليب ومشتقاته اللحوم، الدواء، الطبابة.... لا يمكن لليبرالية أن تحيا في لبنان إذا ما تساكنت مع نظام الفساد المستشري. لا يمكن للدولة أن تنهمر بالضرائب على المواطنين من دون بنى تحتيّة كنظام النقل العام في لبنان، ومن دون تأمين نظام الشيخوخة لكبار السنّ، والتعليم الشبه المجانيّ للأولاد. لماذا يطلب مني دفع ضريبة على كلّ شيء إذا لم يتأمّن حقّي في كلّ شيء؟
يبقى سؤال أخير للطرح، كيف يمكن أن كلّ القطاعات بما فيها مصرف لبنان قد تظاهروا في لحظة واحدة؟ ألا يعني هذا أنّ ثمة يدًا خفيّة تحرّك القطاعات للتوثّب بهذه الطريقة، ولماذا بالتحديد موظفو مصرف لبنان؟ وبنتيجة التنقيب يتبيّن بأنّ العهد برئاسة العماد ميشال عون هو هدف لهذا التصعيد. فالرجل وثّاب نحو التقاط أنوار نهضة اقتصادية جديدة ضمن مبدأ الإصلاح على كلّ المستويات، وقد رفع لواء الحرب على الفساد وفعليًّا على الفاسدين في لبنان إلى جانب السيّد حسن نصرالله. هذا الاستهداف يشاء بطبيعته استنهاض القطاعات والرأي العام للهجوم على العهد ليفقد التوازن في التوجّه والقدرة على الابتكار. هناك تصميم بدأ يظهر رويدًا رويدًا على زعزعة الاستقرار الاقتصاديّ، وإثارة الشغب، كمحاولة لتمرير مفاعيل صفقة القرن في المنطقة، فالااستقرار قناة حقيقيّة لهذا التمرير من لبنان إلى المنطقة، وهو بطبيعته محاولة لضرب ما تمّ إنجازه في الجوار السوريّ عن طريق الضغط، وتطويق ما يمكن إنجازه من خلال دور حزب الله في الحسم ومؤازرة الرئيس عون لمنطق الحسم، وتطثيف الدعوة لعودة النازحين إلى سوريا. وشروط صفقة القرن أن يوطّن هؤلاء في لبنان ليظلّوا ورقة ضغط باتجاه سوريا، في ظلّ انوجاد المنطة في وسط صراع أميركيّ-إيرانيّ مفتوح على عوامل عديدة.
أمام ذلك لقد دخل لبنان عين العاصفة بعمقها الاقتصاديّ واتساقها الاجتماعيّ وضغطها الماليّ، بل تستهلك العناوين في وسط هذا الاصطفاف. ويبقى وبحسب العديد من الأوساط أن يقوم فخامة الرئيس بواحدة من مبادرتين:
1-المبادرة الأولى: الدعوة إلى خلوة اقتصادية-اجتماعية في قصر بعبدا يدعى إليها رئيس الحكومة ووزراء المال والاقتصاد والشؤون الاجتماعية والصناعة والزراعة وحاكم مصرف لبنان ورئيس جمعية المصارف وأمين عام المجلس الاقتصاديّ الاجتماعيّ وخبراء اقتصاديون وماليون وأصحاب اختصاص على متنها خمسة بنود:
أ-تقيم الوضع الماليّ وكيفيّة استبقائه على استقراره.
ب-تقييم النظام الاقتصاديّ في لبنان فيظلّ عدم وجود التوازن بين الكسب والدفع.
ج-تنظيم الجباية وتحسين موارد الدولة ضمن طرائق علميّة مطلوبة ومتاحة.
د-مكافحة الفاسدين، وتنظيم شرعة كاملة الأوصاف تحدّد معايير المكافحة وطرائقها
ه-إعادة النازحين السوريين إلى بلادهم بصورة سريعة خالية من نقاش.
2-المبادرة الثانية أن يكاشف فخامة الرئيس اللبنانيين ويحدّد أسباب الأزمة ويسمّي من هم خلفها فلا نبقى أسرى أخبار راجح الوهم والكذبة، بل تأتي التسمية من قبيل الإدانة فتتحرك السلطات القضائيّة والأمنيّة وتعمد على ضبط الأمور. أرباب الفساد وأصحاب المصالح هم خلف تلك الأزمة فلتتمّ تسميتهم ولتخرج من تأمين التغطية والحماية لهم، فهم مغروسون في لبنان منذ الطائف، غرستهم التسوية وزرعتهم، فتقاسموا البلد وحوّلوه إلى مزرعة سائبة. فخامة الرئيس وحزب الله وججميعنا على يقين بأن لا خلاص للبنان إن لم تنتهي هذه الأنظومة المتحكّمة بلبنان بمؤسساته ودوائره، وهي عينها تتحرّك مع استجماع أوراق الصراع في المنطقة.
الأزمة وجوديّة بكلّ ما للكلمة من معنىى أي إنها أعمق مما يرى، والمطلوب مبادرة إنقاذيّة قبل فوات الأوان. والوقت لا يزال ساتحًا قبل أن ينتهي لبنان ونحن نريده بهيًّا زاهيًّا في كلّ حين.