«الجمهورية» تفتح ملف إتفاق الطائف
العودة في هذه الظروف السياسية بالذات إلى اتفاق الطائف لم تأت من عدم أو عبث، بل حتّمتها مجموعة عوامل وتطورات ومواقف وتحولات فرضت الخروج، ولو من نافذة صغيرة، من اللحظة السياسية إلى الموضوعات والمسائل الميثاقية والتأسيسية.إنّ تعقيدات الأوضاع اللبنانية التي تجعل الاتفاق على أي تفصيل في هذه المرحلة مستحيلا، تشكّل بحد ذاتها قيمة مضافة لوثيقة أعادت صياغة الوفاق بين اللبنانيين، بدءاً من القضايا الميثاقية وصولاً إلى البنود الإجرائية المتصلة بدور الرئاسات والمؤسسات وصلاحيات كل منها، وما بينهما وضع الخطوط العريضة لعناوين إصلاحية تضع لبنان على خارطة الدول المدنية والحديثة.
فما تحقق في الطائف في أيلول من العام 1989، كان نتيجة تقاطع أوضاع خارجية أرادت إطلاق المسيرة السلمية في المنطقة بين العرب وإسرائيل، هذه المسيرة التي استدعت تبريداً للساحة اللبنانية بغية عدم تحويلها إلى منصة لاستهداف المساعي السلمية، فضلاً عن أوضاع داخلية كانت بانتظار لحظة الحسم الخارجية لتضع اللاعبين بالمصير اللبناني أمام مسؤولياتهم حيال المجتمعين العربي والدولي.
فاللحظة التي ولد فيها اتفاق الطائف كانت لحظة نادرة، وعلى غرار كل اللحظات النادرة في التاريخ كان يجب التقاطها سريعا قبل أن تبددها التطورات والقوى المتضررة من الوقائع الجديدة، وبالتالي ما كان متاحا في 30 أيلول 1989 لم يعد كذلك بعد 13 تشرين الأول 1990، حيث أن رفض العماد ميشال عون الانخراط في مسيرة الطائف ومحاولته خلط الأوراق الداخلية ودخول المنطقة في حرب الخليج الثانية، دفع الولايات المتحدة إلى تكليف دمشق إدارة الملف اللبناني لمواكبة الأهداف السلمية. وما شجّع واشنطن على هذه الخطوة، كان مردّه إلى تعاون النظام السوري المطلق معها، من انخراطه في مواجهة صدام حسين إلى مشروع السلام.
ومع التلزيم الأميركي لسوريا، اتخذت الأمور المنحى المعلوم بدخولها ضمن الأهداف العقائدية والمصلحية للنظام البعثي الذي عمل على سَورنة المؤسسات اللبنانية، وتحويل لبنان إلى ورقة رسمية بيده يستخدمها سلماً وحرباً لتحسين شروط مفاوضاته وتوسيع دوره على حساب اللبنانيين وأمنهم وسيادتهم واستقلالهم.
ولكن ما لم يكن في الحسبان السوري تمثّل في جملة تطورات من العيار الثقيل، أبرزها الآتي: الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في أيار 2000، وفاة الرئيس حافظ الأسد في حزيران 2000، بيان مجلس المطارنة الموارنة في أيلول 2000، تأسيس لقاء قرنة شهوان في نيسان 2001، أحداث 11 أيلول 2001، سقوط نظام طالبان في تشرين الأول 2001، سقوط نظام صدام حسين في نيسان 2003، صدور القرار الدولي رقم 1559 في أيلول 2004، اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، انتفاضة الاستقلال في 14 آذار 2005، الخروج السوري من لبنان في 27 نيسان 2005، إنشاء المحكمة الدولية في أيار 2007، اندلاع الثورات العربية من تونس في كانون الأول 2010 إلى مصر في 25 كانون الثاني 2011 وليبيا واليمن في شباط 2011 وسوريا في 15 آذار 2011.
إنّ الهدف من محاولة تعداد أبرز هذه المحطات هو للتدليل على حجم التحولات التي شهدتها المنطقة وأدّت إلى نقلها من مستنقع الجمود والتخلف إلى واحة الارتقاء والتطور، هذه التحولات التي أخذ لبنان أيضا نصيبه الإيجابي منها ودفع البعض إلى التساؤل عمّا إذا كانت تستدعي البحث عن اتفاق طائف جديد يعكس صورة الوقائع الجديدة في لبنان والعالم العربي.
وفي موازاة هذا التساؤل، برزت تساؤلات عدة أيضا، من أهمها: ما الظروف التي ستسمح بتطبيق وثيقة الوفاق الوطني التي لم تطبّق حتى هذه اللحظة؟ وهل ما زالت هذه الوثيقة صالحة وتشكل إطارا مشتركا بين اللبنانيين؟ ومن هي القوى المعترضة أو المتضررة منها؟ وهل تتطلب تعديلا، وما طبيعة هذه التعديلات؟ وكيف يمكن التفكير في التعديل قبل أن تتاح ظروف التطبيق؟ وما أبرز الملاحظات على نصوصها؟ وفي أي إطار يمكن وضع الدعوات إلى مؤتمر تأسيسي وميثاق اجتماعي جديد وغيرهما؟ وهل من الطبيعي أن يكون الدستور خاضعا باستمرار للتعديل؟
وكيف يمكن أن تستقيم الأوضاع في البلاد وتنتظم أمور الدولة في ظل الخلاف المستحكم على السلاح؟ وما مصير البنود الإصلاحية من مجلس الشيوخ إلى إلغاء الطائفية واللامركزية وقانون للانتخاب وفق الطائف (...)؟
وتأسيساً على ما تقدم، رأت "الجمهورية" أنّ فتح باب النقاش حول اتفاق الطائف، بعد كل ما حصل من تطورات وفي ظلّ ما يجري من تحولات، يمثّل حاجة لإعادة التأكيد على أهمية هذا الاتفاق وضرورة التمسك به، ولا بل دَفع "الثوّار العرب" إلى استنساخه من خلال إقرار دساتير تحترم التعددية والتنوع والديموقراطية والحرية، والأهم تأسيس دوَل مدنية بعيدا عن نموذجي الدول الديكتاتورية أو الدينية.
ومن هنا، شكلت انتفاضة الاستقلال فرصة مهمة لإفساح المجال أمام اللبنانيين من أجل العودة إلى نص اتفاق الطائف الحقيقي بعد 15 عاما من الانقلاب عليه، إلّا أن هذه الفرصة سرعان ما تبددت مع رفض "حزب الله" الانخراط في مشروع الدولة وإصراره على التمسّك بسلاحه ووظيفته الإقليمية بإبقاء لبنان ساحة مشرّعة لدمشق وطهران.
ولكن على رغم الصعوبات التي واجهت مسيرة الطائف مجددا بعد الخروج السوري من لبنان، يبقى أنه لا يجوز تبسيط مسألة هذا الخروج الذي فتح اللعبة السياسية على مصراعيها، وأظهر أن الخلاص الوطني لا يرتبط فقط بالانسحاب السوري، إنما بسقوط هذا النظام الذي رفض التعامل مع لبنان من دولة إلى دولة وأصرّ على مواصلة التدخل في الشؤون اللبنانية وإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل 14 آذار 2005.
ولا شك في أن سقوط هذا النظام الحتمي سيقود تلقائياً إلى تحول استراتيجي على مستوى المنطقة برّمتها، وسيكون الشعب اللبناني، كما الشعب السوري، أوّل المستفيدين من هذا التحول، لأنّ النفوذ الإيراني سيتراجع من جهة، ويفقد "حزب الله" المظلة السورية والجسر الإيراني من جهة أخرى، الأمر الذي سيدفع الأمور باتجاهين: إمّا أن يسلّم الحزب بالوقائع الجديدة، أو أن تؤدي الدينامية الخارجية والداخلية إلى تحويل هذا الحزب من أكثرية داخل بيئته إلى أقلية.
وعلى أهمية كل ما سبق من ملفات وقضايا، وفي طليعتها حل معضلة السلاح، والتي من دونها لا دولة ولا من يحزنون، يبقى أنّ أهم إشكالية في الطائف تتصل بالمسيحيين الذين نجحت البروباغندا الإعلامية بتصوير هذا الاتفاق بأنه جاء على حسابهم بعد أن انتقص من صلاحياتهم، علماً أن الممارسة على مر العهود أثبتت أن هذه الصلاحيات لم تستخدم يوما، لأن الصلاحيات تُعلّق في الأزمات، فضلاً عن أن الدستور برمّته يعلّق في ظل غياب الدولة وسيادة الدويلات.
فمصلحة المسيحيين تكمن بالدرجة الأولى في "لبنان أولا"، أي بجعل الأولوية اللبنانية تعلو كل الاعتبارات المصلحية الأخرى لأيّ جماعة أو طائفة أو حزب، ومن ثم تكمن في "الدولة أولا"، لأن الخروج عن هذه الدولة أدى إلى ما أدى إليه من تهجير للمسيحيين وإضعافهم وتهميشهم.
وليس تفصيلاً أنّ هذا الاتفاق أوقف العد، وثبّتَ المناصفة المسيحية-الإسلامية، ودعا إلى إعلاء قيَم الجمهورية من حرية وديموقراطية وتنوّع، والتي شكلت مادة نضالية أساسية للمسيحيين في سبيل المحافظة على وجه لبنان ودوره.
ولا شك في أن النظرة المسيحية إلى هذا الاتفاق تبدلت بين لحظة توقيعه واليوم، وثمّة قناعة لدى شرائح واسعة داخل هذه البيئة بأنه يشكل مصلحة مسيحية ووطنية. وهذه النظرة التي ساهمت انتفاضة الاستقلال في بلورتها، ستصبح أشمل وأعم بعد استعادة الدولة المبادرة السياسية.
ولكن هذا لا ينفي أن ثمّة ثغرات بنيوية في نص الطائف، أبرزها بند "العلاقات المميزة مع سوريا" الذي حاول ربط بيروت بدمشق، كما لم يشر من قريب أو بعيد إلى التبادل الديبلوماسي وترسيم الحدود، الأمر الذي أعادت هيئة الحوار الوطني تصحيحه في العام 2006، أي بعد عام على الانسحاب السوري من لبنان.
وانطلاقاً ممّا تقدم، اختارت "الجمهورية" مجموعة من الشخصيات السياسية الفاعلة في الشأن العام والمؤثرة في الرأي العام، للكلام عن هذا الاتفاق ومقاربته من كل جوانبه وزواياه.