"المقاومة" في وجه ثورة لبنان

النوع: 

 

عاش لبنان احتلالا إسرائيليا لجزء كبير من شعبه وأرضه، ابتدأ عام 1978، وتوسّع عام 1982، لينحسر ويتقوقع بعد حسابات ربح وخسارة، ممعنا بالإهانة والأذى في الجنوب والبقاع الغربي اللبنانيين، إلى أن أرغمته المقاومة على الخروج مندحرا عام 2000.

رغم أن وصول "حزب الله" إلى الاستئثار بالمقاومة انضوى على تجاوزات بحق جهات صادقة ناضلت بوجه إسرائيل، ورغم أن التأطير العقائدي والتنفيذ العملي لمجهود التحرير اعترته شوائب وتساؤلات، جلّها لا كلها مرتبط بالشحن الديني والمذهبي والغيبي، فما لا خلاف بشأنه هو أن "حزب الله" حقق لجمهور واسع من اللبنانيين الشيعة حالة تمكين، بعد أن كان النظام السياسي في لبنان قد همّشهم، برضا زعمائهم الإقطاعيين، بل لصالح هؤلاء.

وإذا كانت المطالب المحقّة قبل عقود، والتي تراوحت صياغتها من الإطار الطائفي إلى الطبقي والمناطقي، هي بأن يلجأ لبنان إلى إنماء متوازن لتحسين أوضاع المحرومين من اللبنانيين الشيعة وغيرهم، فإن ما جرى اعتماده مع استتباب الجمهورية الثانية عام 1990 هو الإنماء المتوازي، لا المتوازن، فكان أن سلّمت معظم المناطق ذات الغالبية الشيعية لثنائية "حزب الله" وحركة أمل.

اليوم إذ لا تبدو الثورة قابلة لأن تلجم لا برفع الإصبع ولا بإفلات "الزعران"، فإن خطر العودة إلى القوة الضاربة يتصاعد

ومع بعض الاستيعاب لحركة أمل والاسترضاء لقيادتها، سعى "حزب الله"، بتوجيه وتمويل إيرانيين، إلى تطبيق شمولية سياسية ثقافية اجتماعية عجزت عنها الجمهورية الإسلامية في إيران نفسها.

المقاومة انتصرت عام 2000، وصالح وطنها وجمهورها كان يقتضي بأن ينتهي دورها المسلّح، وأن تتجه نحو ترجمة إنجازها والتأييد العارم الذي نالته في عموم الوطن إلى حالة سياسية جديدة تعود معها المناطق التي أرست فيها حضورها إلى الدائرة الوطنية على أساس التوازن والتكامل.

غير أن مصلحة إيران كانت ولا تزال مختلفة، فأي إعادة تشكيل للأداة القاهرة التي أنتجتها في لبنان هو تفريط باستثمارها، في وقت تحتاج فيه طهران إلى كافة الأدوات لمواجهة المحاولات المتتالية لمحاصرتها على مستوى المنطقة ككل. وما ينتجه هذا الحساب من حالة شاذة مؤذية في لبنان أمر يعالج تحت سقف المحافظة على هذا الاستثمار.

أما الحالة الشاذة في لبنان، والتي يتواصل تطبيعها إعلاميا وسياسيا وثقافيا لتمسي وكأنها من المسلمات التي من المشاكسة الاعتراض عليها، فهي أنه في هذا الوطن، بالإضافة إلى دولته وجيشها، جيش آخر قد يفوق الجيش الوطني بقدراته في أكثر من وجه، القوة الصاروخية الضاربة مثلا، لا يخضع لمساءلة محلية، دستورية أو مدنية، بل يأتمر جهارا نهارا بأوامر قيادة خارجية، ويخوض المعارك الخارجية التي تطلبها منه، بغضّ النظر عن أثمانها على الوطن. والطامة أن هذا الجيش مبني على أساس طائفي صريح، ويظهر نفسه لدى جمهوره على أنه جيش الطائفة، فأية مطالبة للنظر بوضعه مرفوضة على أنها تعدي على الطائفة.

 

هي مقايضة قد حققتها إيران في الوسط اللبناني الشيعي مع من استجاب لها: تحصلون منا على صيغة تمكنكم من الاستقواء على من كان إلى أمس قريب يستخف بكم كطائفة، وفي المقابل تقدمون لنا دماء أبنائكم خدمة لمصالحنا حيث يناسبنا ألا نزّج أبناء بلادنا.

ثمة مُعدم وفقير من اللبنانيين الشيعة مضطر للقبول بهذه المقايضة المجحفة، وثمة ميسور، قادر على تجنيب نفسه دفع ضريبة الدم، يجد فيها تعويضا عن غبن الواقع الاقتصادي الاجتماعي الذي عانت من الطائفة بالأمس أو اختلال النظام السياسي وتغييب ممثلي الطائفة عن مواقع السلطة التنفيذية اليوم (رغم ضحالة هذه الحجة).

أما الحقيقة والتي يتعامى عنها من يعتنق خطاب "المقاومة والممانعة"، صادقا أو منافقا، فإن هذه الحالة الشاذة في لبنان ليست وحسب عائقا أمام قيام الدولة اللبنانية القائمة على سيادة المواطن لا الطائفة ولا الزعيم، بل هي كذلك عامل محفّز وصانع لواقع الطائفية الذي ازداد ترسّخا طوال الجمهورية الثانية.

فاتفاق الطائف، رغم تضمنه آلية لهبوط هادئ للوصول إلى نهاية الطائفية السياسية، أدّى عمليا، كنتيجة لهذه الحالة الشاذة إلى تأصيل الطائفية وتعميقها، وتهديد مشروع لبنان كوطن لمواطنيه قائم على سيادة المواطن وحريته وكرامته.

والعلاقة الخبيثة، وإن كانت عرضية، بين مصلحة استقرار الاحتلال الإيراني والإمعان في تعميق الطائفية تتبين من خلال تغاضي "حزب الله" عن تجاوزات مقيتة حتى بحق "بيئته" من جانب الفخورين بعصبياتهم الطائفية، ولا سيما حلفائه في التيار الوطني الحر التابع لرئيس الجمهورية.

الوطن القائم على الانصياع للتهديد ليس حرا، بل تحت احتلال

وهذا التيار، والذي ابتدأ وطنيا دون تحفظ في تصديه للاحتلال السوري خلال التسعينيات وحرّا دون هوادة في مواقف شبابه وشاباته الجريئة يومها، هؤلاء الذي سطروا صفحات مشرّفة في تاريخ لبنان دفاعا عن الوطن في وجه القتل والقمع والإهانة، قد استحال اليوم، في بعض قياداته وقواعده، مرتعا لعصبية انطوائية تريد في موقع منع غير المسيحيين من الإقامة في المناطق المسيحية الطابع، وتبحث عن حلول إدارية وسياسية ووجودية يمتزج فيها المطلب المحقّ بالخوف والاستعلائية، وتنتج قراءات من جامعيين ومثقفين مطابق لما تخرجه أجهزة الدعاية في طهران ودمشق، زاخرة بالمؤامرات والمكائد من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية.

فأن يخرج المواطن اللبناني، مطالبا بإنهاء الفساد وتحقيق الإصلاح، أمر يتراوح النظر إليه لدى الحزب والتيار من الريبة المتذاكية إلى القبول المشروط. أما أن يطالب هذا المواطن، وإن جزئيا، بحقه في الكرامة والحرية والاستقلال، وبألا يرهبه ويروعه ويعتدي عليه من ينادي علنا بالولاء لعلي الخامنئي، فمؤامرة بينة.

لا مفر لـ"حزب الله" من اللجوء إلى القوة، كما فعل ويفعل في اعتداءاته على المتظاهرين وسلب أموالهم وتحطيم ممتكاتهم، وإن تبرأت قيادته من الأمر بعد الفعل الممنهج. ذلك أن من يدعم الحالة الشاذة القائمة في لبنان، والمتمثلة بسلاح "حزب الله" وجبروته في خدمة الخارج، عاجز من أن يواجه من يرفضها بالمنطق والحجة والبرهان، بل اللجوء هو إلى جملة وسائل مغالطة للالتفاف على الموضوع.

أوسع هذه الوسائل انتشارا هو الإغراق. تتكرر هنا سردية المؤامرة المضخمة المتخمة بالتفاصيل الغامض منها والجلي والأدلة المزعومة والتي تبنى الصروح النظرية على الواهي منها، والتي من شأن من يتابعها ألا يفهمها، وأن يضيع في تناقضاتها، كي يسلّم وحسب أن هذا الفيض ربما يشير فعلا إلى صواب ما.

والوسيلة الأخرى المباشرة هي غالبا القياس الكاذب والتحويل. "لمَ الاعتراض على ‘حزب الله’، بجيشه الجرار، فيما أحدهم في البداوي قد رفع علم تركيا"، و "كيفك والسعودية؟"، مع استداعاءات صريحة للتصنيف الطائفي حيث من يشتبه من اسمه أنه "سني" مثلا لا يسمح له بأن "يتطاول على مقام السيد" سواء فعل أم لم يفعل، مع استفاضة بعبارات الحطّ والتعالي حيث تتراكم النعال وتيجان الرؤوس.

وإزاء هذا، فيما "المقاومة" تضع نفسها في مواجهة الثورة اللبنانية الجامعة لكافة البيئات اللبنانية بما فيها البيئة الحاضنة لـ"حزب الله"، لا بد من دعوة صادقة إلى من وقف بوجه الاحتلال الإسرائيلي وانتصر، والذي وقف بوجه الاحتلال السوري وانتصر، بعد الإصغاء، بتأنٍ وإجلال وتقدير وإكبار، إلى صوت متظاهرين ساروا في النبطية ينادون "ما عنّا جيش بلبنان إلا الجيش اللبناني" ("عنّا" هي "عندنا" باللبنانية)، إلى حوار صريح وجدي حول الاحتلال الإيراني.

نعم، العبارة مستفزّة للبعض، ليس لأنها خاطئة بل لما جرى من تطبيع للحالة الشاذة القائمة في لبنان. لا يحتاج الاحتلال أن يكون استعماريا أو استيطانيا أو عبر الجيوش الموفدة، بل تكفيه الهيبة التي أحسن "حزب الله" استعمالها برفع الإصبع، إذ مضى أكثر من عقد على استعمال قاصم للقوة الضاربة، بل ومضت أعوام عدة دون الاضطرار إلى نشر أصحاب "القمصان السود". فالقرار مصادر بالهيبة. على أن التهديد واحد، والوطن القائم على الانصياع للتهديد ليس حرا، بل تحت احتلال.

التغيير آت لا محالة، والثورة هي التعبير عن حقيقة أن البقاء هو إما للحالة الشاذة أو للبنان الوطن

اليوم، إذ لا تبدو الثورة قابلة لأن تلجم لا برفع الإصبع ولا بإفلات "الزعران"، فإن خطر العودة إلى القوة الضاربة يتصاعد. ردة الفعل لا يجوز أن تكون بالدعوة إلى إقصاء أو استهداف لـ"حزب الله"، قيادة وأفراد ومؤيدين، بل بالمطالبة بأن يكون طرفا لبنانيا كغيره، وإن كبر الاختلاف بين رؤاه السياسية والعقائدية وتلك السائدة لدى سائر اللبنانيين.

أي أن المطلوب، لا بصيغة الرجاء والتمني بل من منطق الواجب الوطني، رغم ما سوف ينهمر حتما على هذا المطلب من استعلاء واستقواء، إخراج السلاح الموضوع في خدمة الآخرين من دائرة التأثير على القرار الوطني الحر، والانتهاء من الحالة الشاذة التي ينفرد بها لبنان عن الأوطان القائمة على مبدأ سيادة المواطن. المطلوب أن يسلّم "حزب الله" سلاحه للجيش اللبناني بناء على البداهة القائلة بأنه "ما عنّا جيش بلبنان إلا الجيش اللبناني".

قد تتمكن "المقاومة" من ترهيب الثورة حينا للجم هذا الموضوع كما هي أرهبت ولجمت الطبقة السياسية الحاكمة، ما قد يمنحها بعض التأخير لهذا الاستحقاق. ولكن التغيير آت لا محالة، والثورة هي التعبير عن حقيقة أن البقاء هو إما للحالة الشاذة أو للبنان الوطن، فعلى الرغم من التصعيد الذي يتجه إليه فريق "حزب الله"، فإن المواجهة ليست بين المقاومة والثورة، بل هي بين التبعية التي يجلبها السلاح والحرية التي يحققها تسليمه.

 

المصدر: 
التاريخ: 
الأربعاء, أكتوبر 30, 2019
ملخص: 
فاتفاق الطائف، رغم تضمنه آلية لهبوط هادئ للوصول إلى نهاية الطائفية السياسية، أدّى عمليا، كنتيجة لهذه الحالة الشاذة إلى تأصيل الطائفية وتعميقها، وتهديد مشروع لبنان كوطن لمواطنيه قائم على سيادة المواطن وحريته وكرامته.