قضية أهل السُنّة (1/2): المسار الوطنيّ والبديل الوطنيّ
وسط الظلام المخيِّم على المواطنين وعلى الوطن بزغت مبادرة البطريرك الراعي ذات المقولات الثلاث: تحرير الشرعية، والحياد، والمؤتمر الدولي من أجل لبنان. ومنذ الأيام الأولى لخطاب البطريرك الأوّل، سارع السياسيون السُنّة والمثقّفون السُنّة إلى زيارة بكركي، والتصريح منها مؤيِّدين وداعمين بدون تردّدٍ ولا حساسياتٍ من أيّ نوع.
فقد حرَّك لديهم العنوان الأوّل للمبادرة، أي تحرير الشرعية، اقتناعهم العريق والعميق بالشرعيّات الثلاث القائمة على العيش المشترك والتجربة الوطنية على مدى مائة عام: الشرعية الدستورية (وثيقة الوفاق الوطني والدستور)، والشرعية العربية (الانتماء إلى الجامعة العربية، ونظام المصلحة العربية)، والشرعية الدولية (عضويّة الأمم المتّحدة، والقرارات المتّخذة في مجلس الأمن لحماية لبنان من الأخطار الخارجية والداخلية). وهذه الشرعيّات معطَّلة الآن.
إذ هَمُّ رئيس الجمهورية وحزبه التيّار الوطني الحر تعديل الدستور أو إلغاؤه. وقد كانت لاختراقات الدستور والخروج عليه، دماراتٌ كثيرةٌ وكبيرةٌ، ليس أقلّها وقوع سياساتِ لبنان الداخلية والخارجية رهينة ً بيد المحور الإيراني وحزبه المسلَّح. بحيث صار ضرورياً العودة إلى "الحياد"، الذي يضمنه الدستور، لجهة التوازن الوطني، ولجهة العلاقة الطليقة بالعالم المعاصر. ومَن الذي يتكفّل بهذه الانطلاقة التحرّرية والتحريرية؟ بالطبع المجتمع الدولي الذي حمى لبنان على الدوام بقراراته للتحرّر من الاحتلالات، التي تأتي من الخارج، والاختلالات التي تُحدثُها الغَلَبة الداخلية لفريقٍ على فريق. وهكذا فإنّ البطريرك الراعي اعتبر المؤتمر الدولي مُعيناً وضامناً للحياد وللخروج من العزلة التي فرضها على لبنان الفريقان: الحزب المسلَّح، والتيار العوني. وقد كان هذا الانعزال القسْريّ والمنحاز علّة العلل في الانهيار الحاصل على كل المستويات، وفي إبعاد العرب والعالم عن لبنان.
لقد بدأتُ هذه المقالة بموقف السُنّة من مبادرة البطريرك، ليس لأنّ الفئات الوطنية الأُخرى لم تعلن تأييدها للمبادرة. بل إنّ معظم السياسيين المسيحيين، أفراداً وأحزاباً، أعلنوا تأييدهم لها. لكنّه تأييدٌ عامٌّ سببه الموقع الديني والوطني التاريخي والحاضر لبكركي وسيّدها، بدليل أنّهم، باستثناء قلّةٍ منهم، عندما صار الأمر على المحكّ تجاهلوا أو تنكّروا. منهم من تنكّر للدستور، الذي هو أساس كل الشرعيات. ومنهم من تنكّر لمتطلّبات تحرير الشرعية ومستلزماته: إقامة حكومة غير حزبية من المتخصّصين لوقف الانهيار، وللخروج إلى العالم من أجل ذلك. فكيف يقوم النظام السياسي بدون سلطةٍ تنفيذيةٍ قوية وقادرة وغير خاضعة للمحاصصة والغلبة والانشلال؟
موقف الرئيس ميشال عون وصهره النائب جبران باسيل وفقهاء القانون عندهما، من الوزير السابق سليم جريصاتي إلى القاضية غادة عون، من الدستور وحكم القانون، معروف. وموقف "الثوّار" الأشاوس من الدستور ومن النظام معروفٌ أيضاً، لكنْ أين هو موقف أو مواقف الجهات المسيحية الفاعلة والمحترفة من الدستور ومن ضرورة وجود حكومة في البلاد، سبق لمجلس النواب أن كلَّف رئيساً بتشكيلها في الاستشارات الملزمة؟
فمَن يقوم بالإصلاحات، ومَن يذهب باتجاه الحياد، وباتجاه المجتمع الدولي، وباتجاه استعادة حكم القانون، إن لم تكن في البلاد حكومة؟! حتّى الانتخابات المبكرة أو المتأخّرة، مَنْ يشترع لها ويشرف على إجرائها؟!
إنّ الصدق مع مبادرة البطريرك، بكل مفرداتها، يقتضي الإنصاف والحكمة، وقبل ذلك وبعده: الشجاعة. وما أجمع على ذلك غير السُنّة بمجموعهم وبأفرادهم. وبالطبع ما كان إجماعهم لأنّ رئيس الحكومة سُنّيّ، فالدكتور حسان دياب سنّيّ على سنّ ورُمح، وما دَعَمه سنيٌّ معتبرٌ، لأنّ حكومته حكومة اللون الواحد، وما كانت لها مواقف وسياساتٌ لحماية الدستور من تغوّل الرئيس وصحبه، ولا لوقف الانهيار أو مخاطبة العرب والعالم من أجل الإنقاذ.