تغيير النظام اللبناني بين المخادع والجبان
لبنان، كلّما جمّدت الخلافات السياسية استحقاقاً دستورياً، خرج من ينادي بوجوب تغيير النظام الذي تقوم عليه الدولة.
وفي السنوات الأخيرة، تنتسب غالبية الدعوات الى تغيير النظام إمّا الى مسؤولين في "التيار الوطني الحر" الذي يترأسه جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية ميشال عون، وإمّا إلى محسوبين على "حزب الله".
وإذا ما جرى التدقيق في توقيت صدور كل دعوة الى تغيير النظام، يتبيّن أنّها نوع من أنواع "الهروب الى الأمام"، بهدف التغطية على تعطيل يحول دون تشكيل الحكومة، حيناً وعلى مطلب سيادي مثل "التحييد"، أحياناً.
إلّا أنّ هذا لا يعني أبداً أنّ هذه الدعوات لا تعبّر عمّا يعتمل في نفوس أصحابها، إذ إنّ معادلات النظام اللبناني الحالي تقوم على "اتفاق الطائف" الذي سبق أن رفضه، عند التوصّل إليه في خريف العام 1989، كلّ من "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، لأسباب متباينة.
لبنان في هذه المرحلة لا يحتاج دستوره لا إلى تغيير ولا إلى تعديل بل يحتاج الى تطبيق
وتثير هذه الدعوات التي لا تتلقفها القوى السياسية الأخرى في البلاد، سخرية كبيرة، في الداخل كما في الخارج، لأنّ العاجز عن الاتفاق على تشكيل حكومة، في ظل كارثة مالية - اقتصادية - اجتماعية غير مسبوقة، يتنطّح لمهمة معقّدة وصعبة ودقيقة، مثل تغيير النظام.
في الواقع، إنّ لبنان، في هذه المرحلة، لا يحتاج دستوره لا إلى تغيير ولا إلى تعديل، بل يحتاج الى تطبيق، لأنّ لبنان، كما تسير عليه أموره، تطبّق فيه، حصرياً، "شريعة الغاب".
ولا تحتاج سيادة "شريعة الغاب" في لبنان الى تدليل، فـ"حزب الله" لا يتحكّم بالبلاد والعباد، إستناداً، إلى قواعد دستورية، بل إلى ما يملكه من قوة عسكرية مستوردة، بأدق تفاصيلها، من الجمهورية الإسلامية في إيران.
وليس خافياً على أحد أنّ مشاكل السلطات اللبنانية نابعة من سطوة هذا الحزب، فميشال عون لم يكن ليحلم بالوصول الى رئاسة الجمهورية، لو أنّ "حزب الله" لم يفرضه فرضاً على القوى السياسية التي بعد طول معارضة رضخت، تحت ستار سمّي هنا "اتفاقاً" وسميّ هناك "تفاهماً".
ولم تكن خطة إيصال ميشال عون الى السلطة تهدف لا إلى توحيد اللبنانيين ولا الى تفعيل الدولة، بل كانت، في الأساس، وانطلاقاً من معرفة دقيقة بتطلعات عون واندفاعاته وارتباطاته ومصالحه وتاريخه، من أجل تفكيك الدولة وإدخالها، في صراعات "أنانية"، تتستّر بالأبعاد الطائفية والمذهبية، ممّا يُعطي "حزب الله" ما يحتاج إليه من عناصر لتتحكّم دويلته كليّاً بالدولة التي ستستغيث قواها المتنازعة به، لنصرتها.
وتظهر مراجعة المشاكل التي يُعاني منها لبنان أنّه، منذ خروج الجيش السوري في أبريل 2005، أحدث التحالف القائم بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" خللاً في النظام اللبناني، فكانت الاغتيالات وكان الفراغ وكان اللجوء الى القوة، كما حصل في السابع من مايو 2008 الذي أنتج اتفاقاً سلطوياً مشوّهاً، وكان انتخاب ميشال عون الذي فجّر أخطر أزمة يمر بها لبنان.
إنّ لبنان، لو أنّ دستوره يطبّق، لما كان يعاني، حالياً، من انسداد الأفق أمام تشكيل الحكومة، لسبب ظاهري يتمثّل في خلاف رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري على الأسماء والحقائب.
ذلك أنّ رئيس الجمهورية في النظام اللبناني، يشارك رئيس الحكومة، من منطلق التعاون، في تشكيل الحكومة، حتى تراعي المبادئ الدستورية، بعيداً من المحاصصة، على أن تنظر القوى السياسية المتضررة، في شأنها، خلال جلسة منح الثقة في المجلس النيابي.
"السلطة إمّا أن تكون قادرة على كل شيء وإما أن تكون غير قادرة على الإطلاق"
إنّ الأكثرية النيابية التي تكلّف شخصاً تشكيل الحكومة، تعود وترى ما إذا كان قد راعى الشروط التي تناسبها في التركيبة التي قدمها، وفي حال لم يتوافر ذلك، تُسقط الحكومة برفض منحها الثقة.
وفي حال حجبت الأكثرية النيابية الثقة عن الحكومة، تعود، في استشارات ملزمة، وتكلّف شخصية جديدة تشكيل الحكومة.
وفي هذه الحالة، يسقط المعرقلون وتُزال العراقيل، وتنتصر الأكثرية النيابية للدستور المولّد للسلطات والمانع للفراغ.
وبذلك، لا يمكن لرئيس الحكومة أن يحتفظ بورقة التشكيل الى ما لا نهاية، ولا يمكن لرئيس الجمهورية أن يطيح برؤساء الحكومة الذين تنتخبهم الأكثرية النيابية، لأنه لا يرغب شخصياً بهم أو لأنّ لديه حسابات سياسية يريد أن يصفّيها معهم.
وهذا لا يخل بصلاحيات رئيس الجمهورية لأنّه، حتى لو أتت إرادة الأكثرية النيابية عكس ما يرغب به، فإنّه يملك ما يكفي من أدوات حتى يكون الحاكم - الحَكَم، انطلاقاً من المبدأ الدستوري الذي ينص على "فصل السلطات وتوازنها وتعاونها".
يعتبر جان جاك روسو أنّ "السلطة إمّا أن تكون قادرة على كل شيء وإما أن تكون غير قادرة على الإطلاق".
وهذا القول يفسّر، بالتحديد، ما يعاني منه لبنان، فهو غير مصاب بخلل في دستوره حتى يكون طلب التغيير أو التطوير مبرّراً، بل يعاني من سلطة عاجزة، حلّها ليس دستورياً بل ميدانياً.
إنّ السلطة اللبنانية عاجزة، بالأدلة المتراكمة، عن احتكار العنف، وعن رسم سياسة خارجية ذات صدقية، وعن الإمساك بقرار الحرب والسلم، وعن تشكيل مؤسساتها بعيداً من "هيمنة الدويلة"، أي إنّ السلطة، بما أنّها "ليست قادرة على كل شيء" فهي "غير قادرة على الإطلاق".
وتأسيساً عليه، فإنّ هناك نوعين من الناس يصرّان على أنّ المشكلة في الدستور وليست في إهماله. الأوّل مخادع، لأنّه يريد إبعاد الشبهة عن تسببه بعجز السلطة، والثاني "جبان"، لأنّه يريد ان يستغلّ المنصب الدستوري من دون أن يُغضب القوة المانعة لقيام الدولة.