لا تصدّقوا أنها انتخابات مملة: ثمة ما يستحق العناء

النوع: 

 

لو لم تكن الانتخابات النيابية مقلقة للسلطة لما بذلت كل هذه المحاولات لتعطيلها. ماكينة تفريخ الأزمات المفتعلة لم تتوقف منذ مطلع الخريف الماضي. ما أن يقفل باب يفضي إلى احتمال التأجيل أو الترحيل حتى يفتح باب آخر، أو نافذة أو ثغرة أمنية أو قانونية أو تمويلية أو لوجستية أو "اغترابية". آخر ما تفتق عليه ذهن طباخي التعطيل أزمة كبرى مع المصارف قد ينتج عنها ما هو أدهى من تأجيل الانتخابات.

لا جدال أن المصارف في لبنان فقدت سمعتها. معظمها مفلس واقعياً وشريك فعلي في تبديد 100 مليار من ودائع اللبنانيين، وتجييرها عبر البنك المركزي إلى خزينة الدولة وقنوات الإنفاق العام، ومنها إلى أحزاب منظومة الحكم. ولا يخفى كذلك أنها تحتجز القليل المتبقي من تلك الودائع، لا بل انها تعيق إقرار خطة للتعافي المالي، خشية من أن تأتي على حساب مساهميها. هذا يبقي الوضعين الاقتصادي والاجتماعي عرضة للتضخم الجامح والانهيارات المتتالية، ولإدارة الأزمة على حساب صغار المودعين وعموم المواطنين. لكن القرارات القضائية الأخيرة حيال بعض المصارف، رغم وجاهتها الأخلاقية، تثير شكوكاً كبرى حول قانونيتها أولاً، وخصوصاً حول جدواها في تحصيل حقوق المودعين. فالفجوة في هذا المجال من الاتساع إلى حد أنها تتطلب ورشة كبيرة متكاملة من الخطط وبرامج العمل والتشريعات لم ينجز منها شيء حتى الآن. ومن السذاجة الاعتقاد انه يمكن معالجتها بصلية من الأحكام القضائية ينبع معظمها من دوائر أطراف السلطة.

إذا كانت تلك الأحكام غير قادرة على تحصيل حقوق المودعين، فهي في المقابل قابلة للاستغلال لشل الحركة المالية في البلاد، ما تبقى منها بالطبع، فضلاً عن أنظمة الدفع وكل ما يرتبط بهما على صعيد الرواتب والتجارة والغذاء والدواء والمحروقات. فكيف بالحملات الانتخابية، وبالانتخابات نفسها؟

لا أحد من قوى التحالف الحاكم يفصح مباشرة عن رغبته في تطيير الانتخابات. البعض يكتفي بتسخيفها والتقليل من أهمية دورها في تكوين السلطة والخيارات الكبرى الذي يخضع على حد زعمه لقاعدة التوافق دون سواها، وبمعزل عما تأتي به صناديق الاقتراع، أي عملياً لميزان القوة العارية. بالتوازي، يجهد أطراف هذا الفريق لتعظيم شأن المقاطعة والتشجيع عليها في الدوائر القابلة للتأثر بقرار تيار المستقبل تعليق نشاطه الانتخابي.

لكن مما تخشى قوى التحالف الحاكم اليوم؟

السؤال الأساسي المتعلق بالانتخابات، أي انتخابات، هو مصير الأغلبية في مجلس النواب. الأغلبية اليوم تتكون من 70 نائباً. يكفي انتقال ستة أو سبعة مقاعد في الانتخابات المقبلة كي يفقد التحالف الحاكم تلك الأغلبية. هذا احتمال ليس بالمستحيل ولا بالضعيف، خصوصاً في ما يتصل بمقاعد الحلفاء المسيحيين لحزب الله. وفي ذلك تهديد مزدوج للأغلبية النيابية وللغطاء المسيحي الذي يحظى بهما هذا الحزب، ما يستحق من قبل المعنيين به التفكير ملياً في جدوى المجازفة بالأمرين، عشية انتخابات رئاسية تجرى في ظل تحولات كونية غير مسبوقة، بدأت ترخي بظلالها على مجمل محيطنا الإقليمي.

ثمة حسابات أكثر دقّة وأكثر تحوطاً. ماذا إذا انتقلت تلك المقاعد أو بعضها ليس إلى المعارضة التقليدية بل إلى قوى جديدة غير قابلة للترويض ولا تخضع للضغوط ولا للمساومة؟ ماذا إذا وصل إلى المجلس نواب من صنف جديد يجمعون إلى الوضوح والمعرفة ونظافة الكف، التصميم والمثابرة واستقلالية القرار؟

هذا في ضفة الأغلبية الحاكمة. ماذا في جانب قوى المعارضة، التقليدية منها وغير التقليدية؟

أسوأ ما يجب ان تخشاه تلك القوى مجتمعة هو أن ينال التحالف الحاكم الحالي 16 مقعداً إضافياً، فينتزع أغلبية ثلثي مجلس النواب، ما يخوّله تعديل الدستور منفرداً، وبالتالي تعديل النظام جذرياً إذا رغب في ذلك، أو انتخاب رئيس الجمهورية من دون الحاجة إلى التوافق مع أي كان. في الاستحقاقات المماثلة السابقة، كان حزب الله يلجأ إما إلى التعطيل او إلى التلويح باستخدام القوة لتحقيق مبتغاه "بالتوافق" المزعوم.

يبقى هناك سيناريو ثالث، أن يستمر الستاتيكو الراهن، أي ألّا تفلح المعارضة أو المعارضات بانتزاع ستة مقاعد من التحالف الحاكم، وألا يتمكن حزب الله وحلفاؤه من الفوز بأكثر من 15 مقعداً إضافياً. قد يبدو في هذه اللحظة أن استمرار الستاتيكو الراهن هو الأسهل توقعاً بين السيناريوهات الثلاثة، نظراً إلى موازين القوى والتحضيرات، وما رست عليه الترشيحات، ومصاعب التحالفات، خصوصاً في صفوف قوى التغيير أو المعارضة غير التقليدية. فالأخيرة لم تتمكن من اجتذاب مرشحين من "ذوي الأوزان الثقيلة" كما كانت تأمل، ولا هي استطاعت حتى الآن خلق إطار مركزي لإدارة المعركة الانتخابية بحملة موحدة وشعارات مشتركة.

لا يجب الاستكانة إلى المشهد الحالي ولا الاستهانة بالاحتمالين الآخرين. فاكتساح حزب الله وحلفاؤه لعدد من الدوائر أو المقاعد التي أخلاها تيار المستقبل ليس بالأمر المستحيل، ما لم تمنح قوى المعارضة، التقليدية وغير التقليدية، الأولوية لملء هذا الفراغ وليس بالضرورة لتظهير جداول أعمالها الضيقة مهما كانت بليغة أو مبررة. كذلك تشير التقديرات أن انتزاع ستة أو سبعة مقاعد من حلفاء حزب الله لن يكون أمراً شديد الصعوبة إذا استطاعت قوى التغيير أن توحد جهودها في هذا الاتجاه.

باختصار، وكي لا تضيع البوصلة في خضم الاجندات والأولويات المبعثرة، ما آلت إليه الأمور واستقرت عليه موازين القوى والقدرات الذاتية، وتؤكده الاستطلاعات الجدية، أفرز تقسيماً طبيعياً للأدوار. من دون الخوض في التفاصيل، إن ملء فراغ الاعتكاف يقع بشكل رئيسي على عاتق قوى المعارضة التقليدية، فيما تجديد التمثيل ورفده بوجوه ثورية سيكون أوفر حظاً وأكثر فاعلية في الدوائر التي يتواجد فيها حلفاء حزب الله من المسيحيين. بالطبع هناك دوائر ينطبق عليها التصنيفان، ستتطلب عناية خاصة وإدارة مرنة وذكية من الطرفين. المهلة الفاصلة عن الموعد النهائي لتشكيل اللوائح سوف تكون حاسمة في هذا المجال.

يجب أن تبقى العين على محاولات التأجيل والتعطيل التي ستستمر في مد وجزر إلى يوم الانتخاب، والتصدي الحازم لتلك المحاولات. كذلك يجب تفادي الوقوع في شرك تصديقها، وبالتالي خفض التعبئة ووتيرة الاستعداد.

المرحلة الفاصلة عن الانتخابات لن تكون مملة، والانتخابات نفسها لن تكون مملة. ثمة ما يستحق العناء.. بالنسبة إلى جميع الأطراف.

الكاتب: 
أنطوان حداد
المصدر: 
التاريخ: 
الاثنين, مارس 21, 2022
ملخص: 
أسوأ ما يجب ان تخشاه تلك القوى مجتمعة هو أن ينال التحالف الحاكم الحالي 16 مقعداً إضافياً، فينتزع أغلبية ثلثي مجلس النواب، ما يخوّله تعديل الدستور منفرداً، وبالتالي تعديل النظام جذرياً إذا رغب في ذلك،