انتخابات 2022: نقاش مع "قوى التغيير" درءًا لسوء التقدير

النوع: 

 

تضاعفت مؤخرًا المؤشرات المرجّحة لتأكيد حصول الانتخابات النيابية في موعدها في 15 أيار المقبل، وإن كانت التحركات الميدانية للقوى الأساسية الممسكة بالسلطة، أو للقوى التقليدية المعارضة لها، ما زالت دون المستوى المنتظر، فيما يتضح أن "قوى التغيير" المنبثقة من انتفاضة 17 تشرين، أو المتماهية مع تلك الانتفاضة، لم تفلح حتى الآن في حجز موقع متقدم لها في هذا الاستحقاق.

قرار حزب الله

في المقابل، لا يمكن الجزم أن من يمتلك القدرة الفعلية على تعطيل الانتخابات أو تأجيلها، أي حزب الله تحديدًا، قد يتخذ قرارًا حاسمًا في هذا الشأن، قبل تقدير الموقف المتصل بتأثير تلك الانتخابات على وضع الأغلبية التي يحظى بها الحزب في البرلمان اللبناني منذ انتخابات 2018، خصوصًا على خارطة التمثيل المسيحي، ومن حيث الفرص والمخاطر الناجمة عن انسحاب سعد الحريري من الحياة السياسية. الأغلبية البرلمانية تلك ليست فقط مصدر الشرعية القانونية التي يحتاجها الحزب لتغطية فائض القوة الذي يمتلكه خارج القانون، بل هي المعبر الرسمي الالزامي لتشكيل أي حكومة أو إسقاطها، ولانتخاب رئيس جديد للجمهورية في الخريف المقبل، أو لتعطيل هذا الاستحقاق كما جرى مرات عدة من قبل. والبعض يضيف أن الحزب لن يتخذ قرارًا في هذا الشأن قبل جلاء مصير مفاوضات فيينا والكباش الميداني الموازي لهذه المفاوضات، والممتد من مأرب إلى بيروت مرورًا ببغداد. هذا إذا لم تشهد المنطقة أية عوامل توتير إضافية أو أية أصداء مباشرة للتصعيد الروسي-الغربي حول أوكرانيا.

إذا ارتأى حزب الله خطرًا داهمًا من وراء إجراء هذه الانتخابات، أو مصلحة جوهرية أو استراتيجية في إلغائها أو تأجيلها، لن يتردد في تعطيلها، وهو يمتلك الأوراق القانونية والسياسية والأمنية التي تحتاجها تلك العملية. ضمن موازين القوة الحالية، لا أحزاب المعارضة التقليدية التي تنتهج سياسة ربط النزاع مع حزب الله قادرة على منعه من ذلك، فيما بعضها يمكن حتى أن ينخرط في ترتيب إجراءات التأجيل، ولا قوى التغيير قادرة على التصدي لمثل هذا الانتهاك بعد انكفاء حركة الاحتجاج في الشارع، وفي ظل نزوع بعض المجموعات إلى تحييد حزب الله وتغييبه تمامًا عن أدبياتها وتحليلاتها.

وما لم يحصل انقلاب جذري في العلاقات الدولية، فإن القوى الخارجية أو ما يعرف بالمجتمع الدولي والعربي، ستستنكر لا شك بأقسى العبارات تأجيل الانتخابات، إذا حصل، لكن لا يجب توقع قيامها بأي إجراء عملي رادع لهذا الاحتمال. على فداحة مثل هذا الاحتمال، وقع في لبنان في السنتين المنصرمتين ما هو أشد هولًا وإجرامًا ومأسوية، انفجار المرفأ وأكبر انهيار مالي-اقتصادي في التاريخ الحديث يصيب بلدًا منفردًا، والمجتمع الدولي أخفق حتى الآن في الاضطلاع بدور حاسم في التعاطي مع هاتين النكبتين.   

لم يفت الأوان

إذن، إذا كانت قوى المعارضة المحلية وقوى التغيير، منفردة، لا تمتلك إمكانية التصدي لاحتمال تعطيل الانتخابات، فهي في المقابل لا تمتلك ترف التخلف عن التحضير لها بكل ما تستوجب وتستحق، بمعزل عن احتمالات التأجيل والتعطيل، وبمعزل عن النتائج المتوقعة التي لا توحي، حتى الآن، لا بإمكانية التغيير الجذري ولا باختراقات واسعة النطاق. نقول حتى الآن، لأن الأوان لم يفت تمامًا لإدارة مختلفة لتلك الانتخابات، تهدف إلى المطابقة والمواءمة بين النقمة الشعبية العارمة والرغبة الجامحة في التغيير التي تجتاح الرأي العام في كل المناطق والبيئات، والتي تبرزها الوقائع والتحليلات، وبين النتائج الحسية المتواضعة التي تظهرها الأرقام والإحصاءات والتوقعات. حتى احتمالات التأجيل والتعطيل يمكن توظيفها من قبل "قوى التغيير"، ليس كمادة للتعبئة السياسية والانتخابية ضد أطراف السلطة والمشاركين في مثل هذا الانتهاك لحقوق اللبنانيين وحسب، بل أيضًا كفرصة لتعويض الوقت المهدور واستكمال ما كان يجب القيام به من أشهر، لا بل من سنوات.

سؤالان

انطلاقًا من ذلك، ومن موقع التعاطف مع "قوى التغيير" ومن دون التماهي مع أي منها، سأحاول في ما يلي المساهمة في الإجابة على سؤالين متصلين:

1-  ماذا يعني التغيير اليوم في لبنان؟ وبالتالي من هي قوى التغيير؟

2-  ماذا يجب، وماذا يمكن، القيام به للاستفادة من الوقت المتاح حتى الانتخابات؟

حول السؤال الأول، تتعدد القراءات الجدية لكنها تكاد تجمع على أن محنة لبنان الراهنة، وإلى حد ما المزمنة، هي نتاج تضافر ثلاثة عوامل محددة، وإن كانت القراءات تتفاوت في تقدير مكانة وأولوية كل منها، وها هي نوردها من دون ترتيب مسبق: الفساد، التمييز الطائفي، والتبعية للخارج. فالبعض مثلًا يرى شبح "الطائفية" في كل مكان، والبعض الثاني شبح "الطائفة الفلانية" أو "الاحتلال الفلاني"، والبعض الثالث لا يرى لا هذا ولا ذاك بل مجرد "عصابات فساد ونهب وسرقة". هذه الانتقائيات، وإن كان لها ما يبررها في الثقافة السياسية والخيارات الأيديولوجية لهذه المجموعة أو تلك، ولها أيضًا ما يعززها بحسب هذا الظرف أو ذاك، لكنها لا تلبث أن تتهاوى كلها أمام الطبيعة المركبة الثلاثية الأبعاد لمشهد الانهيار اللبناني. وقد تجلى ذلك في المحطات الكبرى التي شهدت تعبيرًا واضحًا على ما استقر عليه الوعي الجمعي اللبناني، إن لم نقل الإرادة الجامعة للبنانيين، مثل محطة 17 تشرين 2019 وما تلاها من تحركات شعبية ظلت تشهد مشاركة مواطنية كثيفة حتى خريف 2020. ولم تنكفئ حركة الشارع الكثيفة تلك إلا بعد القمع الوحشي المكثف للتظاهرات والاحتجاجات بعد انفجار المرفأ، والفقر الشديد والكساد والغلاء والبطالة الذين أصابوا بشدة وبشكل صاعق معظم اللبنانيين، فانصرفوا إلى تدبير شؤون معيشتهم، فضلًا عن جائحة كورونا المتواصلة، وإلى حد ما الدور التخديري الذي لعبته التحركات الخارجية حيال لبنان خصوصًا ما عرف بالمبادرة الفرنسية، والتي تمخضت واقعيًا عن تعويم المسؤولين المباشرين عن محنة لبنان واللبنانيين.

القانون والمواطنة والسيادة

ماذا يريد اللبنانيون الذين خرجوا إلى الشارع لمدة عام كامل بعد 17 تشرين 2019، سلميًا وإراديًا وبكثافة غير مسبوقة؟ ماذا يريدون أن يغيّروا كي تتم مطابقته ومواءمته وتجسيده في الانتخابات وعبرها؟ هم ببساطة طالبوا بثلاثة أمور: دولة القانون والعدالة كنقيض لسلطة الفساد والزبائنية والاستبداد؛ دولة المواطنة الحاضنة للتعددية كنقيض لسلطة التمييز الطائفي؛ والدولة السيدة المحيّدة عن المحاور الخارجية كنقيض للتبعية لهذا المحور الإقليمي أو ذاك.

بالتالي من تكون "قوى التغيير"؟ من دون الدخول في التسميات، يفترض مبدئيًا بالأطراف والاحزاب والمنظمات والمجموعات التي تصرّ على التماهي مع انتفاضة 17 تشرين أن يكون جدول أعمالها وخطابها السياسي يتضمن انحيازًا لا لبس فيه للثلاثية المذكورة أعلاه، أي دولة القانون والمواطنة والسيادة، مهما كانت القضايا الأخرى المستمدة إما من تاريخها السياسي أو من خياراتها الفكرية. إن درجة التزام أي من تلك الأطراف، إن على صعيد الخطاب أو الممارسة أو الموقع أو العلاقات مع القوى الأخرى، بالأضلع الثلاثة لمفهوم الدولة، أي دولة القانون والمواطنة والسيادة، هي المعيار الموضوعي في انتساب هذا الطرف أو ذاك إلى "قوى التغيير"، وهي التي تسبغ عليه واقعيًا مصداقية إن لم نقل شرعية النطق باسم مطالب "17 تشرين" أو مطالب "الانتفاضة".

هذا التعريف المعياري أو المبدئي لقوى التغيير، لا بد منه كنقطة ارتكاز، لكنه لا يغني أبدًا عن توفير المستلزمات الأخرى لمعركة التغيير، قبل الانتخابات وخلالها وبعدها، كتنظيم علاقات التكامل والتنافس والتحكيم بين قوى التغيير نفسها، على مختلف انتماءاتها وأدوارها ووظائفها، وتعبيد المسافة بينها وبين الناخبين، وهم جمهور التغيير، والإدارة اليومية والاستراتيجية للمعركة السياسية والانتخابية مع قوى السلطة. وهذا يستحق تفصيلًا ومناقشة في مقالة أخرى.

الكاتب: 
أنطوان حداد
المصدر: 
التاريخ: 
الاثنين, يناير 31, 2022
ملخص: 
إذا ارتأى حزب الله خطرًا داهمًا من وراء إجراء هذه الانتخابات، أو مصلحة جوهرية أو استراتيجية في إلغائها أو تأجيلها، لن يتردد في تعطيلها، وهو يمتلك الأوراق القانونية والسياسية والأمنية التي تحتاجها تلك العملية.