نداء لتطبيق الطائف كاملاً واستعادة هدنة 1949
يُعتبر اتفاق الطائف لعام 1989 المرجعية الدستورية والسياسية الأساسية في لبنان ما بعد الحرب الأهلية. وقد نصّ على مبادئ عدة من شأنها إعادة بناء الدولة على أسس الشرعية وسيادة القانون، ومن أبرزها حصرية السلاح بيد الدولة، وإنهاء ظاهرة الميليشيات، واحترام القرارات الدولية ذات الصلة بلبنان. إلّا أنّ التطبيق العملي اتّسم بانتقائية واضحة، إذ جرى التركيز على بند «حصرية السلاح» في الخطاب السياسي، في حين أُهملت بنود أخرى ذات طابع سيادي وقانوني، ولا سيما تلك المتعلقة بتفعيل اتفاقية الهدنة الموقّعة بين لبنان وإسرائيل عام 1949، وكذلك الالتزام بالقرار 425 الصادر عن مجلس الأمن عام 1978.
اتفاقية الهدنة لعام 1949 ليست وثيقة سياسية عابرة، بل هي معاهدة دولية مكتملة الأركان أُبرمت تحت رعاية الأمم المتحدة، وسُجلت رسمياً لديها، ما يمنحها الحجية القانونية بموجب المادة 102 من ميثاق الأمم المتحدة. والأهم أنها أُدرجت تحت الفصل السابع من الميثاق، ما يجعلها ذات قوة إلزامية تتجاوز أي تفاهمات لاحقة. وبموجب الاتفاقية، جرى الاعتراف بالحدود الدولية للبنان مع فلسطين، وتقييد حجم القوات على طرفي الحدود بحيث لا يتجاوز قوامها الكتيبتين، على أن يكون طابعها دفاعياً فقط. كما نصت على إنشاء لجنة مراقبة اللهدنة تعمل تحت إشراف مباشر من الأمم المتحدة، بما يضمن حيادها واستقلاليتها عن أي طرف إقليمي. هذه العناصر مجتمعة تمنح الاتفاقية قيمة قانونية واستراتيجية تفوق بكثير المبادرات السياسية التي طرحت لاحقاً، مثل «ورقة برّاك» أو آليات وقف الأعمال القتالية.
من الناحية القانونية، يشكّل القرار 425 الصادر عن مجلس الأمن عام 1978 امتداداً مباشراً لالتزامات إسرائيل بموجب اتفاقية الهدنة، إذ يطالبها بالانسحاب الفوري وغير المشروط من الأراضي اللبنانية، وينص على نشر قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل). وبذلك، يتلاقى القرار الأممي مع نصوص اتفاقية الهدنة في تكريس مبدأ سيادة لبنان ووحدة أراضيه ومنع أي اعتداءات عبر الحدود. إلّا أنّ الممارسة الدولية أظهرت خللاً واضحاً في التنفيذ، حيث عمدت إسرائيل، بدعم من الولايات المتحدة، إلى تعطيل هذه المرجعيات القانونية، واستبدالها بآليات سياسية تفاوضية تُفرغها من مضمونها، مثل تفاهم نيسان 1996 أو القرار 1701 لعام 2006، وصولاً إلى آليات أكثر حداثة لإدارة وقف الأعمال القتالية.
إن المقارنة بين المرجعية القانونية المتمثلة في اتفاقية الهدنة والفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وبين الآليات السياسية التي تُطرح خارج هذا الإطار، تُبرز بوضوح مشكلة الشرعية. فالأولى تحمل طابعاً إلزامياً دائماً، وتؤسس لنظام قانوني ملزم لجميع الأطراف، في حين أن الثانية محكومة بميزان القوى ومصالح الدول الكبرى، وتفتقر إلى الاستقرار والاستمرارية. من هنا، فإن استبعاد اتفاقية الهدنة من دائرة النقاش السياسي والقانوني في لبنان يُعدّ إخلالاً بمبدأ سمو القانون الدولي على التدابير السياسية المؤقتة، ويجعل لبنان عرضة لمزيد من الضغوط والتدخّلات.
وتزداد خطورة هذا الإهمال عندما يُلاحظ أن جزءاً من النخب اللبنانية يتعاطى مع اتفاق الطائف بطريقة تجزيئية، فيتم تضخيم بند حصرية السلاح وكأنه جوهر الاتفاق، في حين أن النص الكامل يربط هذه الحصرية بمنظومة أشمل تتضمن ضبط الحدود، إنهاء الاعتداءات، والالتزام بالشرعية الدولية. فالمعالجة المجتزأة لا تخدم مصلحة الدولة اللبنانية، بل تؤدي عملياً إلى تعطيل التوازن الداخلي وتكريس الارتهان للخارج.
خلاصة القول، إن احترام اتفاقية الهدنة لعام 1949 وتفعيل القرار 425 يشكّلان مدخلاً قانونياً لا غنى عنه لتثبيت السيادة اللبنانية وصون حدوده المعترف بها دولياً، وفق قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة. أما الاستمرار في تجاهل هذه المرجعيات والانخراط في آليات سياسية بديلة، فهو مسار يعمّق من أزمة الشرعية ويُبقي لبنان ساحة مفتوحة للتجاذبات الإقليمية والدولية. ومن ثم، فإن أي استراتيجية لبنانية جادّة لاستعادة السيادة لا بد أن تنطلق من تطبيق الطائف بنصوصه الكاملة، لا الانتقائية، وأن تُعيد الاعتبار إلى المرجعيات الأممية القانونية التي تضمن مصالح لبنان على المدى البعيد.